أخبارفي الصميم

حين تبقينا الكتابة أحياء

الكتابة تحيِ ولا تدْفِن، عبارة تختزل الكثير من الإشارات إلى ضرورة الكتابة للتعبير عن الوجدان والشعور الإنساني، ضرورة البوح بما يلج في مخيلة الناس، وترجمة الأمنيات إلى كلمات، وأحيانا ترجمة الآلام إلى جمل قليلة أو كثيرة لكنها تحمل العديد من الإشارات عن حالات إنسانية قاسية لا تتحملها النفس البشرية وتعبر عنها كلمات وسطور.

فالكتابة تلامس جوانب إنسانية عديدة فينا وبدواخلنا، وتلقي الضوء على فئات عريضة من الأفراد المنسيين والمهمشين اجتماعيا وسياسيا، والذين لا يهمهم الكثير مما يقع في العالم من حولهم كل همهم أن يعيشوا أو يحاولون العيش في ظل ظروف، تجعلهم يحتضرون يوميا، لكنهم يقاومون الموت أملا في فرصة قد تحولها الأقدار إلى حقيقة وأماني في حياة أفضل.

الكتابة تخبرنا عن قصص إنسانية مختلفة، عن أحدات متفرقة من هنا وهناك، عن وقائع مجتمعية غريبة أحيانا وواقعية في الكثير من المواقع الجغرافية التي لا يهتم التاريخ البشري كثيرا بما يحدث هناك. نحن نكتب لنعاين الواقع بطريقة ملموسة ليس بالضرورة من أجل الإصلاح القطري أو الكوني، لكن فقط إشارة إلى وقائع إنسانية متناثرة في بقاع مختلفة من هذا الكون.

فخيارات الكاتب لا تتعارض مع خيارات الناس فهو يأمل دوما قراءة واقع الناس بالطريقة التي يأملون هم أيضا أن يكون الكاتب جزءا من واقعهم وأمالهم وآلامهم، فالكتابة هي ذلك الخيط الرفيع بين واقع واقعي وغد مخيل، لكنها تحمل في الكثير من الحالات، شموعا مضيئة حتى في أعتم الحالات الإنسانية وأسوأ الظروف المعيشية.

لا احد يختار أن يتأذى في هذا العالم أو أن يتألم، لكن قساوة الإنسان أفرزت العديد من الحالات البشعة، كما أن بشاعة الفرد ورغبته في السيطرة والتحكم خلخل العديد من الأحكام الأخلاقية التي كان من المفروض أن تسود المجتمع العالمي وتنشر المبادئ الإنسانية، التي غابت وسط دهاليز السياسة الفاسدة والامبريالية العالمية المتوحشة التي غذت الأفراد والجماعات بالمزيد من الحقد والكراهية وانتشار الحروب والنزاعات المسلحة في العديد من المجتمعات.

عبر الكتابة نسافر في التاريخ ونتعدى الحدود الجغرافية، لنطل على حالات إنسانية متعددة، أحيانا لا نقتسم معها نفس الهوية ولا اللغة ولا الدين ولا الثقافة، لكن الحس الإنساني يجمعنا. هذا الحس الإنساني هو ما يجعل منا كيانا واحدا في زمن تشتت فيه كل شيء ونزح فيه العديد من الناس، وترك آخرون أحبائهم، وفقد البعض الكثير ذويهم وأقربائهم في ظل جشع إنساني غير مسبوق.

من الواضح أن العالم ليس مصنعا لتحقيق الأمنيات كما يقول الروائي الأمريكي جون غرين في روايته الشهيرة ما تخبئه لنا النجوم، لا أحد يعلم ما يخبئه لنا القدر، فالكتابة هنا هي تعبير عن أحلام تراودنا وتسكن هواجسنا، أقدار نحلم أن تكون كما توقعناها، تصديقا للمقولة التالية، كل متوقع آت، أو مقولة توقعوا خيرا تجدوه. فالكتابة تحمل دوما أملا أو على الأقل بصيصا منه، ونقط إيجابية حتى ولو كانت كل المؤشرات تشير عكس ذلك، فالكتابة تبقى قارب نجاة لمجتمع تائه، ومياه شرب عذبة في شمس صيف حارقة.

فالكاتب الحقيقي يشعر بالأسى اتجاه واقع تؤلمه أحداثه، فهو لا يتجنب قول الحقيقة كيفما كانت، ولا يخاف أن تراها أعينه ويستوعبها عقله. فالكاتب يعيش صراعا أبديا بين الموضوعية والذاتية، قد يصاب في البداية بنوع من التوتر والارتباك لكنه مفيد في تحديد الطريقة المثلى لنقل الواقع والتعبير عن أحاسيس الناس، وفهم انفعالاتهم وردود فعلهم ومواقفهم من الكثير من الأمور التي لا يمكن فهمها إلا حين ننصهر في هذا التلاحم بين الكاتب والقضية التي يدافع ويناضل من اجلها.

فالكتابة هي من تبقينا أحياء، في زمن مات فيه الضمير الإنساني، وانقضى فيه زمن المثاليات.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button