أخبارفي الصميم

عالم لا يتسع للجميع في زمن المادة !

لقد انطوى التطور العلمي والتكنولوجي الباهر الذي وصله الإنسان المعاصر على نقيضين إثنين: وعد بالرفاهية التامة وتحقيق الإنسان لمبتغاه وسيطرته على الطبيعة وعنفها، والنقيض الثاني التهديد بالدمار والانقراض.

بقلم : عبدالله العبادي

لقد امتلك الإنسان المعاصر قوة تكنولوجية مكنته من التحكم في الطبيعة وترويضها، لكن حسب منطق هايدغر يحق لنا التساؤل حول معرفة ما إذا كانت هذه القوة لا زال الإنسان يتحكم فيها أم أفلتت من قبضته وارتدت وانقلبت ضده؟ وهل رغم كل هذا التقدم التكنولوجي المهول والمخيف لا زال الإنسان ضعيفا رغم أنه من المفروض أن تكون قوته وفي خدمته؟ هذه الأسئلة تقودنا لطرح إشكالية الإنسان – التكنولوجيا، والتساؤل حول إذا ما كانت قد انفصلت عن الإنسان، وأصبحت قائمة بذاتها وتعمل باستقلالية تامة عنه وبطريقة عمياء وفي الطريق لاستعباده وتجريده من إنسانيته.

لذا وجب علينا طرح العديد من الأسئلة عن مآلنا، عن المنعطف الخطير الذي تعيشه البشرية المعاصرة، أي مسلك تسلكه الآن الحضارة البشرية؟ هل نحن على الطريق الصحيح في مسارنا؟ لما اقتصرت مفاهيم التنمية، ومنذ عقود، على التنمية الإقتصادية وحدها أي الجانب المادي متجاهلة الجانب الروحي والعقلي والنفسي للجنس البشري. لقد تم التركيز، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على الرفاهية المادية للإنسان وانشغل الإنسان جاهدا في تحسين ظروف عيشه في ظل مجتمع استهلاكي بامتياز تحت ضغوطات نفسية واجتماعية رهيبة جعلت منه آلة بشرية في عالم رأسمالي متوحش قسم المجتمعات إلى فوق – تحت وشمال – جنوب.

في الأساطير الإغريقية يظهر الإخوة بريثيوس وأبيمثيوس كرمزين للنوع البشري: الغافل الجاهل الذي لا يفهم ولا يدرك الأمور إلا بعد وقوعها والثاني وهو نقيض الأول أي العاقل المتبصر الذي يعرف الأمور قبل وقوعها فيستدركها.

وعبر التاريخ بنى الإنسان تميزه عن الحيوان على أسس ثلاث: العقل الذي اهتم به الفلاسفة بأثينا ومبدأ الكرامة والاصطفاء الذي جاءت به الرسل السماوية ومنظور الإنسانية الذي تبنته حقبة الحداثة والتنوير.

والمقاربة الطبية الحديثة تأسست على هذا التمييز بين الطب البشري والطب الحيواني، رغم استمرار ممارسة التجارب العلاجية والأبحاث العلمية على الحيوانات التي تلتقي إلى حد ما مع الإنسان في النظام البيولوجي، لكن تختلف عنه نوعيا في أنماط العيش والنظامين النفسي والإجتماعي.

فنحن اليوم أمام وضع خطير ويختلف عن الأوبئة القاتلة التي عرفتها البشرية من مرض الطاعون في العصور الوسطى إلى الإنفلونزا الإسبانية التي راح ضحيتها حوالي خمسون مليون فرد مع نهاية الحرب العالمية الأولى من بينهم السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر والأديب والفيلسوف التشيكي فرانز كافكا والشاعر الفرنسي ابولينير.

فالأوبئة اليوم، تعود بالبشرية إلى عالم الضرورة التي اعتقد الكثيرون أننا تجاوزناه أو أننا نستطيع التحكم فيه بشكل مطلق، كما يهدد أيضا بانهيار ما بنته الليبرالية الجديدة من حواجز وطبقات بين الأفراد والمجتمعات بين من يملك ومن لا يملك بين المركز والهامش، وربما ستعاد صياغة المفاهيم بطريقة أخرى بعد اليوم.

إنه يعري العلاقة بين الإنسان والطبيعة من جهة ومن جهة أخرى انفصام بين الإنسان والإنسان، ويعبر عن إيديولوجية استهلاكية محضة تتلاعب بالمصير البشري وتحولت مع الزمن إلى ديانة معاصرة حاصرت الفرد من كل الجهات.

الانتشار الواسع والمخيف للأوبئة وموجات الخوف والرعب الذي رافقته ستدفعنا إلى إعادة النظر في تصوراتنا حول الحرية الفردية وعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة المجتمعات فيما بينها، وأيضا علاقة الفرد والسلطة ودور الإعلام في نشر الخبر والدور الإيجابي أو السلبي الذي تلعبه مواقع التواصل الإجتماعي.

يؤكد الفيلسوف ميشيل ديبويي أننا نعيش في العالم نفسه وأنه لا يمكننا تجاوز مخاطره إلا  مجتمعين، ويذهب وحسب رأيه أن هذا الفيروس يعيد الطبيعة إلى مركز اللعبة، لكنني أتساءل هل ستسمح النيوليبرالية بذلك وهي التي اختزلت علاقتنا بموضوعات الكون في الحرب والاستهلاك، أم التطورات والتحولات المجتمعية والعالمية ستجبرها على ذلك؟

يكتب ميشيل سير في العقد الطبيعي وبنوع من الوضوح والرؤية الثاقبة :” لقد أصبحنا: بحكم تحكمنا المفرط في الطبيعة ضعفاء أمامها، حتى أنها تهددنا هي بدورها لتسيطر علينا. فمن خلالها ومعها وداخلها نقتسم القدر نفسه. وأكثر من كوننا نملكها، ستملكنا هي بدورها، كما في القديم، عندما كنا نخضع للضرورات الطبيعية، لكن مع فارق نوعي: في الماضي، كان الخضوع محليا، أما اليوم فسيكون عالميا. لماذا ينبغي لنا، منذ الآن، البحث عن التحكم في تحكمنا؟ لان تحكمنا لم يعد منضبطا ولا مقننا، ويتجاوز هدفه، بل أصبح ضد الإنتاج. لقد انقلب التحكم الخالص على نفسه “

وبمنطق هايدغري، حين نتطرق للفوضى الإنسانية التي أحدثها الوباء ونتساءل عن علاقة الإنسان بالإنسان في ظل الوضع الحالي، يرى في مقالته البناء والسكن والتفكير، ربما يتوجب عليهم بدءا أن يتعلموا ما هو أكثر من ذلك، كيف يقتسمون سكنى العالم مع الآخرين، وبلغة أخرى، كيف يتجاوزوا وثنية المكان.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button