أخبارثقافة و فن

الكاردينيا العنيدة..

لن تنتهي منها حتى تنتهي منك. لن تترك لك مجالاً للتفكير في غيرها، ستستحوذ على عقلك وقلبك، تُبقيك مقيداً بها وبشخوصها، أسيراً داخل عوالمها. وإن حاولتَ النأي عنها، ستراودك عن نفسك، وتفعل المستحيل لاجتذابك إليها.

أنت لست أنت، وأنت معها. تنسى الأكل والشرب، والنوم أيضاً. أنت المفتون بها، تنسج خيوطها مأخوذاً بمتعة الخلق، تشعر بالعظمة وكأنك شبه إله.

تتوالى الساعات برفقتها، كل همك تحسين مظهرها وجوهرها إشباعاً لغرورها. يصيبك الشحوب والهزال، أو قد يزداد وزنك من كثرة المكوث إلى جانبها. إنما كل شيء يهون في سبيل إرضائها والنشوة التي تمنحك إياها.

في غيابها، تظل شارد الذهن، تفكر في إيجاد حل لعقدتها، كما لو كانت حياتك خالية من العقد المستعصية. وأنت تجالس أحباءك وأصدقاءك، كل حديثك عنها. تحكي لهم عن دلالها وشقاوتها، وتتباحث معهم حول عنوان يشبهها.

بقلم/ نعيمة السي أعراب

يأخذك الأرق من شدة التفكير في تفاصيلها. وإن غفوت أخيراً، تزورك في المنام بتلاوين وأشكال غريبة، وتسير بك في متاهات عجيبة. ما إن تصحو حتى تهرع إليها ممتنًّا لِما فتحت أمامك من دروب جديدة، وتسارع بكتابة ما أوحت إليك به قبل أن ينمحي من ذاكرتك، كما تفعل الأحلام عادة.

تطول العشرة بينكما، وأنت تقود شخصياتها وأحداثها محاولاً تطويعها وِفق المسار الذي رسمتَه. أحياناً، تتصاعد الأحداث وتتسارع متجاوزةً الحدود التي خططت لها؛ تتشابك الخيوط وتكاد أن تفلت من يدك؛ تتصارع الشخصيات وتتداخل مساراتها حتى تشعر أنك لا تعرفها، ولا عدت ملمًّا بحيثياتها وممسكاً بمصائرها. تخرج الأمور عن السيطرة وتتأزم علاقتك بمعشوقتك، فتستنجد ببعض الأصدقاء الذين تثق فيهم. وبما أنهم على حياد، سوف ينقذونك من هذا المأزق، وترجع العلاقة بينكما لتستمرَّا معاً في الرحلة التي اخترتُماها.

ثم دون سابق إنذار، يحدث أن تتعب منها، تصيبك “وعكة الكاتب”، فتعجز عن تلبية رغباتها. تهرب لممارسة إحدى هواياتك، كسماع الموسيقى أو مشاهدة شريط سينمائي، لكن هيهات هيهات! كل أغنية تسمعها، كأن كلماتها تخاطبك وتذكرك بها، وكل فيلم تشاهده، يحيلك على مشهد من مشاهدها، فتسبقك خطواتك إليها.

تتصلب رقبتك من طول الجلوس إلى المكتب، وأنت تغازلها وتتلذذ بسطورها؛ تؤلمك أصابعك من كثرة الرقن على لوحة مفاتيح الحاسوب، منتقياً المفردات التي تتلاءم مع تغيُّر مزاجها؛ فتقرر الخروج للمشي والتنزه قصد تليين عضلاتك وإراحة أعصابك منها. لكن بمجرد أن ينتعش جسمك ويصفو ذهنك، ها هي تطرق باب أفكارك، وتجعلك تحِن إلى أجوائها وأبطالها، فترجع إليها صاغراً مشتاقاً.

وإن تجرأتَ وأردتَ أن تثبت لنفسك ولها أنك قادر على الابتعاد عنها والتفكير في غيرها، فتكتب مثلاً في موضوع بعيد عن انشغالاتها، ستجدها تتلصص عليك وتسألك:

“- ما هذا الذي تكتبه؟”.

ستجيب متصنعاً البراءة:

“- إنه نص خطَر لي، لكن لا علاقة له بك!

– حقًّا؟”، سترد وهي تطالع ما كتبتَ، ثم تكمل بكل ثقة:

“- بالعكس، أراه مناسباً لي، وسوف يثريني بكل تأكيد! أُنظر، يمكنك وضعه هنا في هذا المقطع!”، وتشير لك إلى الموضع المعين.

تهدأ قليلاً، ثم تستفسرك من جديد:

“- وما هذا الذي سطرته هنا؟ شِعر؟

– أجل، بِضع أبيات فاضت بها سجيتي، لكن لا تعنيك في شيء!

– بل تعنيني، ثم إنها تعجبني… ستكون رائعة لو أضفتها كعتبة لإحدى مقاطعي، إنها مناسبة للأحداث هناك!”، وتدلُّك أين.

في المساءات، وقت عودتك مُجهَداً بعد يوم حافل بالمتاعب، ستتلقفك عند الباب وكلها لهفة:

“- هيَّا اِحكِ لي كيف قضيتَ نهارك!”.

ستنصت إليك باهتمام، ثم تعلق بشغف:

“- هذا الموقف الذي عِشتَه، أريده! عليك بتوظيفه لصالحي! شغِّل دماغك، وستجد المكان الملائم له، لا تضيعه سدى! وهذا الشعور الذي انتابك، أريده أيضاً، إنه يليق بأحد أبطالي…”.

هكذا سوف تستنزف كل طاقتك، مشاعرك، أفكارك، خواطرك، أحلامك، خيالاتك، وحتى كلماتك… كل شيء لها، ولا شيء لك. ستجعلك فارغاً تماماً، إلا منها. حينذاك، ستدرك هول الخطر المحدق بك، وحجم الورطة التي ورطتَ نفسك فيها… سترغب في التخلص منها مثل عشيقة لا تعرف الارتواء، تحولت من مصدر متعة وسعادة إلى مهووسة تطاردك وتهدد أمنك وسلامك. ولكي تبرئ ذمتك وتتجنب تأنيب الضمير، ستلجأ ثانيةً إلى أصدقائك، تعرضها عليهم حتى يحكموا بينك وبينها. ستفرح عندما يقولون لك:

“- دعكَ منها، هي لا تحتاج لأي إضافة!”.

حالَما تخبرها بذلك، ستثور في وجهك:

“- تصدقهم؟ وتسمي هؤلاء أصدقاءك؟ إنهم غيورون ولا يريدون لك الخير! أنظر إليَّ جيداً، أنا ما زلت أحتاجك، وأبناؤك أيضاً!

– أبنائي؟!

– أجل، شخوصك، ألستَ أنت من خلقتهم؟ كيف تتخلى عنهم وتتركهم مثل الأيتام؟!

– لقد بلغوا سن الرشد، ولا خوف عليهم!

– وأنا، كيف تتخلى عني؟!

– ألا تكتفين؟! ألا تشبعين؟! يا لك من عاشقة نهمة! أعطيتك كل ما لدي، ماذا تريدين مني وقد التهمتِ أيامي وأجهزتِ عليَّ بالكامل!”.

سوف تتمسك بك قائلة:

“- أريد أن أكون الأفضل! هيَّا نقِّحني أرجوك!

– أنت منقحة ولا ينقصك شيء!

– لا تكن بخيلاً، فقط بعض اللمسات والهمسات! هيَّا أرجوك، خذني في حضنك مرة أخرى، أعدك أنها ستكون الأخيرة!”.

إياك أن تنصاع إليها، أُحذِّرك! ما إن تستجيب لها حتى تُحكِم عليك قبضتها مجدداً، وتمضي بك إلى حتفك. أنصحك بالصرامة وإرسالها حيث تستحق. المطبعة في انتظارها. وحتى إن أعادوها إليك بحجة إجراء بعض التعديلات، تعامل معها ببرود، كما لو كنت طبيباً تستقبل مريضة سبق لك معاينتها، وجاءت عقب أسبوع للمراجعة. بحركة يد ناهية ستوقفها:

“- لا داعي لخلع ملابسك!

– ألن تفحصني؟ ما زلتُ أشعر ببعض الوهن وعدم التوازن!

– لا أبداً، اِطمئني، أنتِ بخير!”، ستجيبها وأنت تقيس حرارتها وضغطها.

هكذا أَنجز مهمتك في حياد كامل، ثم أَغلقها بسرعة؛ أَحكِم عليها غلافها حتى لا تغريك بمفاتنها، وأَرجعها إلى المطبعة حيث سيتكلفون بها، هي أصلاً لم تعد مِلكك. بعد ذلك، خذ إجازة وسافر، فأنت في حاجة إلى الاستشفاء منها حتى تسترجع صحتك النفسية والبدنية. وإلى موعد آخر مع رواية جديدة، تكون قد استعددتَ لها بما يليق من عدة. فلن تأخذك على حين غرة، ولن تسمح لها بالتلاعب بك… على العموم، هذا ما تعتقده الآن!.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button