أخبارإفريقيا

الخلفية السياسية للأزمة الاجتماعية وأفق تونس نهاية ديسمبر المقبل

بقلمعلي اللافي – كاتب ومحلل سياسي

انتهت القمة الفرنكوفونية التي عقدت في جزيرة جربة منذ نهاية الأسبوع الماضي، وبداية من نهاية هذا الأسبوع ستجد السلطة الحالية في تونس نفسها أمام ملفات حارقة مركزيا (الانتخابات – التغيير الحكومي الذي لا مفر منه – المعارضة ومطالبها غير المحدودة كميا ومجاليا–المسألة الاجتماعية والدعم والأسعار وغياب السلع الأساسية) إضافة الى الملفات الجهوية (جرجيس وصفاقس كمثالين للذكر لا الحصر )، والسؤال الملح والذي سيبقى مطروح اهو: إلى اين من الممكن أن تتطور الأحداث في المربعين السياسي والاجتماعي وخاصة في ظل ميزانية 2023 -والتي لا يعلمها الا من وضع أرقامها ومربعاتها-؟،وطبعا الإجابة على ذلك السؤال لا أحد بوسعه تقديمها وخاصة وفي ظل حيرة المواطنين وضيق أفق المعارضة والسلطة في آن واحد وهو ما يجعلنا نطرح سؤالا ثانيا وهو: ما هي الخلفية السياسية لتطور الاوضاع الاجتماعية في أفق نهاية ديسمبر المقبل؟      

** معطيات أساسية أو في التشخيص الواقعي لما يجري اجتماعيا

  1. أولا،كل الذين ولوجوا للشبكات الاجتماعية مساء أول الأربعاء (23 نوفبمر) يعرفون كمية الغضب والصدمة التي أصابت مرتادي تلك الشبكات من طلاب وعمال ونخب ومواطنين من القرار المتخذ بعد الترفيع في أسوام المحروقات مرة أخرى بل وفي صدور قرار في الرائد الرسمي ينص تحديدا على أن الزيادة في المحروقات ستكون مستقبلا بــــ7 بالمائة، ورغم أن الرئيس وأثناء لقاءاته الأخيرة بوزرائه بدا على خلاف مع الحكومة بخصوص موضوع الدعم الا أنه وبناء على ان السياسة الاجتماعية لا تٌقيم بالمواقف والتصريحات بل بالنتائج وبما يتم ميدانيا من خلال توفر السلع من عدمه وفي حجم الأسعار مقارنة بقدرة المواطنين على مجاراتها ولعل مثال ديسمبر 1983 ورغم مقبولية الوزير الأول يومها “محمد مزالي”لدى الجميع تقريبا فان حجم الغضب الشعبي كان عارما ويعرف الجميع حيثيات احداث الخبز في جانفي 1984 وتداعياتها وترتباتها على الأوضاع السياسية والاجتماعية، وأهمية المقارنة هذه أن الفاعل السياسي والحاكم أساسا يتحمل مسؤولية ما له علاقة به في المسألة الاجتماعية تحديدا وقد دفع نظام الرئيس المخلوع ضريبة بؤسه في معالجة المسألة الاجتماعية بل أن الجزء الأكبر من مسك المنظومة الحالية بالسلطة هو نتاج عدم قدرة حكومة “المشيشي” وسندها السياسي يومها على التسريع بالخطوات الاجتماعية ( قانون 38 وبعض إجراءات أخرى عديدة بقيت ضمن مربع الارتباك والتردد).
  • ثانيا، عمليا يزحف التضخم على جيوب كل التونسيين حتى أنه سجل ارتفاعا متواصلا منذ ما يزيد على 10 أشهر، وبالتوازي مع ذلك تغيب الإجراءات الحكومية للحد من تداعيات الغلاء على حياة المواطنين المهددين بمزيد من الضغوط المعيشية مع اقتراب توقيع اتفاق مالي مع صندوق النقد الدولي خلال الفترة القادمة من العام الحالي، وقد سجل التضخم قفزات شهرية لكل أشكال السلع والخدمات وسط تحذيرات من جموح النسب في غياب أي وصفات لعلاج نزيف الغلاء وعدم قدرة السلطات على مكافحته مستقبلا، ومعلوم أنه خلال جويلية/يوليو قد بلغت نسبة التضخم واحدا من أعلى المعدلات التي عرفتها البلاد بوصولها إلى 8.2 بالمائة، غير أن هذا النسبة كانت نتاجا لصعود متواصل بدأ في نوفمبر من العام الماضي، وها هي اليوم تصل تقريبا الى 09 بالمائة وبما أكثر واقعيا، وفعليا يُرجح الخبراء أن يواصل التضخم منحاه التصاعدي ليبلغ الرقمين سنة 2023، محذرين من تداعيات ذلك على معيشة المواطنين والاقتصاد المحلي الذي لا يجد طريقه نحو النمو ما يسبب نسب بطالة إضافية وبعض من أولئك الخبراء يؤكد إمكانية بلوغ نسبة التضخم رقمين قبل نهاية نوفمبر من العام الحالي بسبب الظرف العالمي وتصاعد أزمة المواد الأساسية والطاقية والغذائية، وان كان التضخم تحوّل إلى إشكال عالميالا أن قدرة التونسيين على مواجهته تبدو ضعيفة بناء على أن الدولة التونسية ومنذ الاستقلال لم تقم بخطوات احتياطية  لمثل هذه اشكالات ويمكن الجزم أن قدرة الدولة اليوم على احتواء الغلاء ومساعدة الطبقات الضعيفة والمتوسطة على تخطّي الصعوبات المعيشية لن تكون كبيرة…
  • ثالثا،أزمة تمويل وعجز الموازنة بلغت مستوى قياسي لم يسمح للحكومة باتخاذ أي إجراء تحوّطي من أجل تحسين مخزونات المواد الأساسية، ما يجعلها في مهب تقلبات السوق العالمية وارتفاع كلفة واردات الغذاء والطاقة، والحقيقة أن هذه الحكومة لا تفعل شيء غير التصريف اليومي لكل ما هو اداري وخطواتها متثاقلة وهي مشلولة في ذهنيتها السياسية والدليل ان الرئيس “سعيد” نفسه غير مرتاح لأدائها وعدم التماهي بين مكوناتها ووزرائها وهي أقرب للجزر الحكومية بل هي لم تغادر مربع كل حكومات المخلوع وحكومات ما بعد 2011 وهي في الأخير افشل منهم لا سياسيا فقط بل وأيضا من حيث النتائج، ومعلوم أن هناك حقيقة قائمة وهي أن التضخم الملموس في تونس يتجاوز بكثير النسب الرسمية المعلن عنها من قبل معهد الإحصاء الحكومي، وبعض الخبراء في تصريحاتهم ليوميات عربية وتونسية قالوا أن النسب الحقيقية للتضخم تفوق الرقمين وقد تقترب من 12 بالمائة، والواقع أن كل الاقتصاديين مُجمعون على أن وضعية “الركود التضخمي” هي من أصعب وأخطر الوضعيات التي يمر بها اقتصاد بلد ما وتونس أول تلك البلدان والحقيقة أن الاقتصاد التونسي يعيش الوضعية الحالية منذ فترة ولكن التعتيم الإعلامي غطى على ذلك بل أن الأمور مرجحة للتعقيد أكثر وخاصة في ظل وجود نسبة تداين خارجي كبيرة ووضعية اجتماعية هشة، وفعليا كانت الحكومة الحالية قد توقعت منذ بداية السنة انفلات التضخم حيث قدر قانون المالية في جانفي/يناير الماضي معدل التضخم السنوي للعام الحالي بـ7 بالمائة مقابل 5.7 بالمائة سنة 2021 تأهبا لمزيد من رفع أسعار سلع وخدمات أساسية ولا سيما المحروقات والكهرباء والغاز ومياه الشرب.
  • رابعا، لا شك أن سنة 2022 هي الأصعب اقتصادياغير أن السنوات القادمة قد تكون أكثر صعوبة على التونسيين مع اقتراب توقيع اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي سيتم بمقتضاه رفع الدعم والانتقال إلى حقيقة أسعار الغذاء والطاقة، وسط تحذيرات من انفجار اجتماعي وشيك نبّه له الاتحاد العام التونسية للشغل، وتنوى الحكومة فعليا المرور إلى السرعة القصوى في تنفيذ إصلاحات اقتصادية موجعة بهدف توقيع اتفاق مالي مع صندوق النقد الدولي ستكون كلفته الاجتماعية باهظة على الطبقات الوسطى والضعيفة، وعمليا تتضمن الخطة الحكومية للإصلاح الاقتصادي الرفع التدريجي للدعم على مواد الطاقة عبر زيادة أسعار المحروقات والكهرباء والغاز الموجهة للاستهلاك الصناعي والأسري، من خلال آلية التعديل الآلي لأسعار المنتجات بنسبة 3 بالمائة بدلاً من 5 بالمائة إلى جانب إحداث لجنة للضبط الآلي لأسعار الكهرباء والغاز، ومعلوم أن صندوق النقد الدولي قد أعلن الشهر الماضي  عقب مهمة لبعثته في تونس عن تقدم السلطات في أجندة الإصلاح الاقتصادي الخاصة بها للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، ودعم النمو الشامل، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي وكذلك العدالة الضريبية، وكانت بعثة من صندوق النقد الدولي بقيادة “بيورن روثر” زارت تونس في الفترة من 4 إلى 18 جويلية/يوليو الماضي لمناقشة الدعم المالي المحتمل من صندوق النقد الدولي لتونس، وقال الصندوق إن الإصلاح الاقتصادي سيتطلب الحد من نمو فاتورة رواتب القطاع الحكومي خلال السنوات المقبلة، والإلغاء التدريجي لدعم الطاقة من خلال الزيادات المنتظمة في الأسعار التي تربط الأسعار المحلية بالأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي.
  • خامسا، فعليا لم يعد من الممكن حجب الأزمة الاجتماعية الناجمة عن الغلاء والتضخم، والنتيجة الطبيعية أن ارتفاع التضخم يقابله في الجانب الآخر فقراء جدد بل أن الفقر والغلاء سيكونان أكثر توحشا العام القادم مع بدء تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، والاشكال اليوم هو في غياب الحماية الاجتماعية الكافية للتونسيين ولعل أرقام المرصد التونسي للاقتصاد هي أكثر تعبيرا عن حجم الكارثةومعلوم أرقامه تلك تؤكد أن 3 ملايين أسرة تونسية تعیش في حالة من الھشاشة الاجتماعية والاقتصاديةومعلوم للجميع وعينيا ان الأسعار في حالة اشتعال وان الزيادات في الأجور لم تحل المشكلة بالنسبة للأجراء ذلك أن الزيادة الموقع عليها من طرف المركزية النقابية هي تجميد ناعم للأجور، فماذا يعني زيادة ب3.5 بالمائة مقابل نسبة تضخم تقارب الـــــ11 واقعيا (9.1 رسميا)؟، كما أن السلع مفقودة والطوابير موجودة في كل الفضاءات التجارية والأسواق والبحث عن السكر والحليب والماء وبعض سلع أخرى أساسية أصبحت خبزا يوميا للمواطنين، وكيف يمكن اليوم أن تحدث هؤلاء على الانتخابات والسياسة وهم جميعا يعرفون أن بعض منابر إعلامية لا تمارس سوى الخداع في تطرقها للمشاكل اليومية بل وتوظفها لصالح أطراف وتسيسها بكسل مفرط؟، والحقيقة أن الحكومة الحالية هي من تتحمل وزر ما يجري وفي السياسة العبرة بالنتيجة والماسك بالسلطة هو من يتحمل الأعباء الاجتماعية والدليل هو ان حكومة ما قبل 25-07 وسندها قد تحمل تلك الأعباء والنتائج وحكومة “مزالي” في ديسمبر 1983 وحكومات المخلوع قد تحملت تلك الأعباء والنتائج المترتبة عليها بل ونتج عنها فراراه للسعودية سنة 2011….              

 ** حكومة بودن وفعلها السياسي ومستقبل تطور الأوضاع الاجتماعية

  1. أولا، كان التركيز سياسيا واجتماعيا خلال الأسبوعين الماضيين منصبا على القمة الفرنكوفونية ورغم المشكلات في كل البلاد وخاصة في جرجيس وصفاقس فان الدولة بطم طميمها واعلامها ووزرائها  وكل اطاراتها حصرت تقريبا كل اهتماماتها ولمدة أيام بالقمة وما قد يترتب عليها من استثمارات وعطايا ونتائج، والثابت اليوم أن الأنظارتتجه وستتجه الى قصر قرطاج بشأن الأوضاع الاجتماعية وخاصة قرار المضي حتى الآن في  مواصلة مسار انتخابات 17 ديسمبر رغم أن التقييم أكد أن كل المعطيات والقراءات أعلاه أكدت وتؤكد أن التأجيل هو القرار الأصوب ذلك أن إجراء الانتخابات في هذه الظروف في غير صالح الرئيس “سعيد” نفسه ولا هو في صالح البلاد وأن الاستمرار فيها بكل نقائصها سيعني أنها ستتحول إلى عبء إضافي عليه حيث لن تُفضي إلى برلمان متعدد وفعّال يعطي مبررا قويا لحل البرلمان الذي سبقه ويُعيد الثقة إلى التونسيين في العملية الانتخابيةكما أن إجراء الانتخابات للحصول على برلمان ضعيف ومهزوز سيزيد من الاتهامات التي توجه إلى “قيس سعيد” بأنه يُريد مؤسسات شكلية محيطة به ولا يُريد مؤسسات قوية قد تنافسه على إدارة السلطة وفي الأخير يبقى الحل الأنسب هو أن يُعلن الرئيس “سعيد” عن تأجيل الانتخابات إلى الربيع القادم…
  • ثانيا، الجميع اليوم ينتظر المفاجأة مع أمل مقابل ذلك لدى الحكومة أن يغيّر القسط الأول من قرض صندوق النقد الوضع ولو قليلا أي ما يجدد الثقة لدى الناس في إمكانية التغيير ذلك أنه وفي ظل هذه الظروف فإن البرلمان الجديد – لو تمت الانتخابات- سيزيد من تعميق الأزمة بدل تخفيفها، وإن تونس اليوم تتطلب الذهاب لحوار تجلس فيه كل الأطراف السياسية والاجتماعية لطاولة الحوار بهدفوضع خارطة طريق ترسم مستقبلها القريب وحتى لا نذهب الى ما هو أردأ من الوضع الحالي وحتى لا تحصل المفاجآت غير السارة وهي قد تحصل لو تعطلت لغة التواصل والحوار وتغليب المصلحة الوطنية العليا…
  • ثالثا، لا شك أن كل تونسي لديه أمل في تخطي الصعاب الحالية سواء هو مناصر للسلطة الحالية أو هو معارض لها، ولكن المعطيات تتكلم خاصة وأن المنظمة الشغيلة والآخرين من الشركاء الاجتماعيين غير مرتاحين لسياسة رفع الدعم والترفيع المستمر في أسعار المحروقات ولا حتى نية بيع المؤسسات العمومية وحتى لو تمت كل تلك الإجراءات فلن تتحسن الأوضاع الاجتماعية في أفق نهاية ديسمبر المقبل الا عبر الحوار الوطني الذي يضم الجميع او عبر حدوث المفاجأة أو المفاجآت بمعناها الإيجابي وعصرنا ليس عصر مفاجآت وخاصة وأننا في وضع إقليمي متطورة الأوضاع فيه دراماتيكيا ومن هناك يمكن أن تأتي بعض مفاجآت رغم ان تونس مؤهلة أن تكون ريادية برؤية أخرى وبدون أي مفاجآت ذلك أن رأسمالها بشري بالأساس ولكن هل تعي حكومة بودن أو بديلتها المرتقبة والرئاسة والنخبة بذلك؟، ربما ….          

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button