أخبارالرئيسيةفي الصميم

اصنع أحلامك : كلمات للالهام و العمل

د. مهدي عامري – كاتب و أستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط

كلنا، حين نبلغ الأربعين وما فوقها، نصحو فجأة كأن جرسًا داخليًا دقّ معلنًا أن زمن الركض بلا بوصلة انتهى، وأن السنوات المقبلة تتطلّب عقلًا أكثر هدوءًا وحكمةً، وإرادةً أكثر نضجًا. كلنا نُدرك أن الحياة لم تعد تحتمل التجارب الطويلة ولا القرارات المتهورة، وأن الأحلام التي نريد تحقيقها لم تعد أحلامًا شخصية فقط، بل أصبحت جزءًا من رسالتنا تجاه أبنائنا، وأسرتنا، ومستقبلنا. ولعلّ الطريف في هذه المرحلة من العمر أننا نتقن المزاح حول “السنوات التي وَلَّت”، لكننا في أعماقنا نرى بوضوح أن الزمن الباقي هو الأهم، وهو الأغلى، وهو الذي يجب أن نخوضه كما يصارع قائد السفينة الموج العاتي بمهارة لا يعرفها المبتدئون.

في هذا العمر تبدأ العقول بالبحث عن التوازن بين الطموح والواقعية، وبين الحلم والحسابات الدقيقة، وهنا يأتي دور علم النفس السلوكي الذي يؤكد أن التغيير ليس معجزة، بل عادةٌ صغيرة يكررها الفرد حتى تُصبح جزءًا منه. وتخبرنا قاعدة علمية بسيطة أن الدماغ، مهما تقدم به العمر، يظل قادرًا على إعادة البرمجة عبر ثلاث أدوات ذهبية: البدايات الصغيرة – الثبات – والتغذية العاطفية.

بالفعل، نحن لا نحتاج إلى احداث الثورة في عالمنا الخاص بل ربما إلى عادة واحدة تُفتح بها نافذة سحرية نحو حياة جديدة و سعيدة. الأمر يشبه أن تقرر كل صباح أن ترفع الستارة قليلًا ليدخل الضوء أكثر فأكثر. و من هنا، فالحلم الأول، الذي يتصدر أولويات فئة الأربعين فما فوق، هو تأمين مستقبل الأبناء. والجميل أن هذا الحلم، رغم ضخامته، يبدأ بخطوات صغيرة: توفير منتظم ولو بسيط، تعليم مهارات حقيقية للأبناء، زرع قيم العمل لا الخوف و بناء رصيد نفسي ومعرفي يجعل الأبناء قادرين على مواجهة الحياة دون خوف. فالعلماء السلوكيون يؤكدون أن تأمين المستقبل لا يكون بالمال فقط، بل بتعليم الأبناء المرونة الذهنية والذكاء العاطفي وحبّ المعرفة.

و من أكثر السلوكيات فاعلية في هذا الباب هو ما يسمّيه علماء السلوك “نية التنفيذ”، وهي ببساطة أن تربط كل فعل بنية واضحة: “سأدخر 10% من دخلي نهاية كل شهر”، “سأخصّص ساعة أسبوعيًا لتحسين مهارات أبنائي.” “سأتحدث معهم عن المستقبل لا عن المخاوف.” ومع تكرار هذا النمط، يتحول القلق إلى خطة، والخطة إلى عادة، والعادة إلى واقع. نعم، كلنا نشعر بالضغط: عمل، التزامات، مسؤوليات، لكن كلنا أيضًا قادرون على صناعة تحوّل حقيقي يبدأ من حيث نقف الآن. ولعل أعظم ما في الأربعين وما بعدها أن الإنسان يتخلص أخيرًا من وهمِ “البدايات المثالية” ويستيقظ على حقيقة بسيطة: الاقلاع الحقيقي هو الذي يبدأ بأي شيء، حتى ولو كان متناهي الصغر.

بناءا على ما سبق أليس من المهم ان نطرح السؤال : هل نحقق أحلامنا حقا بعد الأربعين ؟ إنه أكثر من سؤال، إنه جرس عملاق يرن و يطن في ذهن كل من تجاوز الأربعين، خاصة حين يتعلق الأمر بالحلم الثاني: كسب المزيد من المال واستثماره لرفاه الأسرة. نعم، المال ليس كل شيء، لكنه في حياة الأربعين والخمسين يصبح “أداة للحماية” أكثر من كونه وسيلة للرفاه، ويصبح الاستثمار نافعا، و ذلك انطلاقا من التجارب الحياتية التي اكتسبها الاربعيني على مدار سنوات مديدة من الكد و الكفاح.

و اذا عدنا الى النظريات السلوكية المعاصرة لوجدنا أن المال لا يرتبط تماما بالحظ، بل بثلاثة سلوكيات أساسية: تنظيم الإنفاق، تنويع مصادر الدخل و اتخاذ قرارات مالية مبنية على البيانات بعيدا عن العواطف. ولأننا نميل في هذا العمر إلى التفكير الواقعي، فإن أول خطوة هي أن نُحوّل المال من فكرة كبيرة نخاف منها، إلى عادة بسيطة نتقنها. وكما يقول كارنيجي: “ابدأ من حيث أنت، بما لديك، ومع من حولك.” وكل الدراسات تُظهر أن الذين ينجحون في زيادة دخلهم ليسوا دائما الأكثر ذكاءً، بل الأكثر تنظيما و حزما.

فالدماغ يستجيب للعادات المالية الثابتة أكثر مما يستجيب للقفزات الكبيرة. فعل هذا السلوك العلمي المجرب: كل أسبوع، مهما كانت الظروف، ضع مبلغًا بسيطًا في “صندوق الاستثمار العائلي”. ولو كان ضئيلاً. هنا سيتعامل الدماغ مع “التكرار” وليس “القيمة”. وبعد 12 أسبوعًا فقط ستشعر أن الاستمرار أصبح تلقائيًا. علاوة على هذا، ابدأ بمهارة جديدة، واحدة فقط، تزيد من دخلك: الاستشارة، التدريب، التجارة الإلكترونية، تحرير المحتوى، أو أي خدمة أخرى تجيد تقديمها.

إن العلماء يسمّون هذا تكديس المهارات الصغيرة المتناثرة في داخلك لتصنع منها مصدر دخل جديد. وإذا أردت لمستقبلك المالي أن يصبح أكثر أمانًا، فاجعل الاستثمار عادةً أسبوعية لا قرارًا عاطفيًا. اقرأ صفحة واحدة في كتاب عن التمويل. شاهد فيديوهات حول الثقافة المالية. استمع لبودكاست أسبوعي حول هذا الموضوع المهم.

هذه “جرعات صغيرة” تعيد برمجة دماغك الاقتصادي، وتجعله يرى المال كأداة تنظيم لا كمصدر للقلق. و المثير للاهتمام أننا كلما كبرنا أصبح تقديرنا للمال أكثر نضجًا، فنبحث عن الراحة لا عن المظاهر، وعن الاستقرار لا عن الانبهار. ومن خلال السلوكيات الصغيرة لكن المدروسة، يصبح الطريق نحو الرفاه المالي واقعيًا لا خياليًا.

أي نعم.. ذلك ممكن… إنه ليس شعارًا للتفاؤل المجاني، بل حقيقة علمية مثبتة. و الخبراء يزفون لنا النبأ السار : و هو أن الإنسان قادر على إعادة بناء حياته في أي عمر، شريطة أن يبدأ بخطوة واضحة وأن يكررها بانتظام. وهنا يأتي الحلم الثالث: برمجة حياة ما بعد التقاعد. أبشروا… فالتقاعد في زمننا لم يعد نهاية الشغف، بل بداية مرحلة يملك فيها الإنسان ما لم يملكه في الأربعين: الوقت. والأجمل من هذا و ذاك أن الدراسات الحديثة تشير إلى أن من يُخطط لتقاعده قبل عشر سنوات من موعده يشعر بسعادة أعلى بنسبة 40% ممن يترك الأمور للصدفة.

والتخطيط هنا لا يعني القوائم المعقدة، بل ثلاث عادات فقط: عادة صحية: رياضة خفيفة يومية تضبط المزاج والهرمونات. عادة معرفية: ساعة قراءة أو تعلم، تجعل العقل حيًا ومرنًا. عادة اجتماعية: صديق أو اثنان، لا أكثر، يكفيان لدعمك النفسي في كل المراحل. و الثابت أن كل الدراسات تحذّر من “التقاعد الفارغ” الذي يجعل الأيام متشابهة، والعمر ثقيلًا. بينما تؤكد أنّ “التقاعد المبرمج” يشبه انتقال لاعب محترف من ملعبٍ إلى آخر، لا من الحياة إلى الفراغ.

ختاما، كانت هذه رحلتنا التي بدأناها بكلمات من الإلهام و الأمل. و الآن، حان وقت التنفيذ.. تحرك ! هلم الى العمل! كلماتي لك لم تكن مجرد مقال تحفيزي من بضع فقرات، بل هي أشبه بخارطة طريق عملية مبنية على العلم و تجارب الخبراء و مطعّمة بروح الأمل، علاوة على أنها موجهة لكل من وصل إلى سنّ النضج بين الأربعين والخمسين.

إنها خلاصة أحلامك الثلاثة: تأمين مستقبل الأبناء، تحسين الوضع المالي، وبرمجة حياة ما بعد التقاعد. وكلها أحلام يمكن تحقيقها بالثبات، و المثابرة و مداومة العادات الايجابية الصغيرة، مع التحلي دائما بالنية الصادقة، وبالأمل ( أولا و أخيرًا) في الخالق عز وجل، و الذي، حتما، سيفتح لك الأبواب المغلقة ويبارك لك الخطوات في سبيله و معيته.

هكذا إذن تُبنى حياتك، ليس فقط بين الأربعين و الخمسين، بل في كل الأطوار و المراحل:

. جرعة مكثفة من العلم،
. جرعات منتظمة من التخطيط،
. و جرعات أخرى من الأمل و تحفيز الذات.

كان هذا كل شيء، و حتما ليس كل شيء، فالله أعلم.

اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button