مستقبل الإعلام الإفريقي في ظل الطفرة الرقمية: آفاق التعاون والتحديات الراهنة

في سياق التحولات المتسارعة التي يعرفها المشهد الإعلامي العالمي، ومع تصاعد تحديات الرقمنة والذكاء الاصطناعي، تأتي الندوة الوطنية المنظمة بمعهد نوري التقني والعلمي بالإقامة الجامعية الصفصاف بوجدة تحت عنوان: الإعلام والتحول في افريقيا من نقل الأخبار إلى صناعة التغير؛ لتشكل لحظة علمية وتكوينية استثنائية، نظّمتها أكاديمية المستقبل للإعلام والتواصل وجريدة الحدث الإفريقي، بشراكة مع جامعة محمد الأول، بمشاركة نخبة من الأساتذة الجامعيين والخبراء والمهنيين.
هذه الندوة لم تكن مجرد لقاء تقليدي، بل محطة لتقاسم الأفكار ورسم ملامح مستقبل الإعلام الإفريقي، في ظل الحاجة الملحة لإعلام مسؤول، مقاوم للأخبار الزائفة، ومؤثر في صناعة التغيير لا مجرد ناقل له.
وقد تميزت هذه الدورة بمشاركة فعالة للطالب الباحث في مسلك الصحافة والإعلام الرقمي بجامعة محمد الأول، ربيع الكنفودي، الذي لعب دورًا بارزًا في التنسيق الأكاديمي، وتأطير المحاور، وخلق فضاء للحوار البنّاء اثناء تسييره الندوة.

كما كانت المناسبة فرصة لتوقيع اتفاقية استراتيجية بين أكاديمية المستقبل وشبكة محرري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، شكلت بدورها علامة فارقة في مسار التعاون جنوب-جنوب، خاصة في مجال التكوين والتأطير الإعلامي.

وقد كانت التصريحات التي حصلت عليها جريدة الحدث الإفريقي غنية تعكس تنوع زوايا النظر وتعدد الرهانات المرتبطة بمستقبل الإعلام في إفريقيا، حيث التقت رؤى الباحثين والممارسين حول قضايا التحول الرقمي، وأخلاقيات المهنة، وواقع التكوين، ودور الإعلام في التنمية، لتفتح المجال أمام نقاش جماعي يعيد رسم العلاقة بين الصحافة والواقع الإفريقي المتجدد.
في مستهل هذه التصريحات، شدد أبو بكر إبراهيم أوغلو، الرئيس التنفيذي لشبكة محرري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على أهمية الشراكة الجديدة مع أكاديمية المستقبل، معتبراً أن افتتاح مكتب دائم للشبكة في الرباط سيمكن من توسيع دائرة التكوين الإعلامي وربط المغرب بإفريقيا جنوب الصحراء. وقال: “نتطلع إلى أن تكون المملكة المغربية بوابتنا نحو إفريقيا، وأن نؤدي دورًا كبيرًا في تطوير الإعلام بالقارة من خلال برامج تدريبية عالية الجودة ومواجهة الأخبار الزائفة بشكل ممنهج”.

وفي تصريح شامل، أكد الخبير الاعلامي الأستاذ عبد السلام العزوزي، مدير عام أكاديمية المستقبل، أن الإعلام الإفريقي لم يعد بإمكانه الاكتفاء بنقل الخبر، بل أصبح مطالبًا بالمساهمة في صناعة التغيير، في مواجهة التحديات الكبرى وعلى رأسها انتشار الأخبار الزائفة.
وأضاف أن هذه الظاهرة أصبحت “هاجسًا مؤرقًا للمؤسسات والدول، لكونها تتطلب قدرات هائلة لرصدها وتصحيحها”. وأكد أن النهوض بإفريقيا سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا لا يمكن أن يتحقق دون إعلام قوي مستقل، قادر على الصدّ والتصدي، وصناعة الوعي الجماعي.

من جهته، قال الدكتور هشام المكي، في تصريح عميق للحدث الافريقي مؤكدا على تأثير الذكاء الاصطناعي على حرية التعبير ومحذرًا من تحالفات بين سلطات سياسية مستبدة وبعض شركات التكنولوجيا لفرض رقابة على الفضاءات الرقمية.
وأضاف نفس المتحدث، أن “الخوارزميات تُقصي المحتويات الحرة وتوجه الرأي العام نحو وجهات محسوبة، مما يخلق نوعًا من التعتيم والتضليل الذكي”. وأوصى بضرورة الضغط من طرف الأكاديميين والصحفيين والمجتمع المدني من أجل سنّ تشريعات حمائية، وتطوير مواثيق شرف إعلامية تحصّن حرية التعبير وتكرّس العدالة الرقمية.

بدورها، دعت فاطمة الزهراء البصراوي، نائبة رئيس جهة الشرق، إلى تعزيز التعاون البيني بين الدول الإفريقية لمواجهة التحديات البنيوية. وقالت إن الإعلام قادر على توحيد الخطاب، كسر الحواجز الثقافية، ونشر التكنولوجيا والمعرفة.
واعتبرت أن الإعلام أداة فعالة لدعم السياسات العمومية وتحقيق التنمية المستدامة، مضيفة: “لا يمكن لأي دولة أن تواجه التحديات بمفردها، ويجب أن يكون الإعلام في صلب التعاون المشترك”.

أما الدكتورة انتصار حديه، طبيبة وأستاذة بكلية الطب بجامعة محمد الأول، فقد ركزت على دور الإعلام في التثقيف الصحي والتوعية المجتمعية، مشيرة إلى ضرورة أن يكون الإعلام شريكًا للجامعة في تبسيط العلوم وتسليط الضوء على النماذج الملهمة.
وأضافت أن الإعلام الثقافي يجب أن يلعب دورًا رياديًا في “الحفاظ على الذاكرة الجماعية، والتعريف بالمبدعين والكتاب، وتشجيع الإنتاج الثقافي المحلي”.

وفي آخر تصريح، أوضح الدكتور حسين ساف، أن الإعلام لم يعد مجرد ممارسة تقليدية، بل أصبح صناعة متعددة الوسائط والتخصصات تُمارس داخل بيئة ريادة الأعمال والابتكار.
وقال: “نتحدث اليوم عن صانع محتوى، وليس فقط صحفيًا، لأن الصحافة لم تعد إلا جزءًا صغيرًا من صناعة المحتوى الرقمي”.

وشدد على أن الصحفي الحديث يجب أن يتحكم في خوارزميات الإنتاج والتوزيع، ويطور نموذجًا اقتصاديًا ذاتيًا لضمان الاستدامة، داعيًا إلى توجيه شراكات المجلس الجهوي للشرق نحو مشاريع في الرقمنة والذكاء الاصطناعي داخل الإعلام الإفريقي.
واختتمت الندوة برسالة واضحة: الإعلام الإفريقي يجب أن يتحول من دور ناقل للخبر إلى فاعل في صناعة التغيير. ولتحقيق ذلك، لا بد من الاستثمار في التكوين والتجديد التكنولوجي، وتعزيز الشراكات جنوب-جنوب، وضمان حرية التعبير في مواجهة التهديدات الرقمية.
ومن قلب مدينة وجدة، ذات الامتداد التاريخي نحو المتوسط والشرق، انطلقت دعوة جديدة لإفريقيا: الوقت لا يسمح بالتردد، والإعلام هو مفتاح السيادة الرقمية والتنمية المستدامة.



