الزكاة في العصر الحديث: فتوى المجلس العلمي الأعلى تعيد تعريف المال وتوسع نطاقه في ضوء التطورات الاقتصادية

في خطوة علمية ودينية جديدة،أصدر المجلس العلمي الأعلى فتوى مفصلة حول الزكاة بعد اطلاع أمير المؤمنين الملك محمد السادس عليها وإذنه بنشرها للعموم. وجاءت الفتوىالتي نشرت على موقعي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى لتقدم رؤية متجددة لأحكام الزكاة وتكييفها مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاصر.
الفتوى الممتدة على 13 صفحة جاءت لتقريب المغاربة من مقاصد الزكاة وأحكامها وفق المذهب المالكي مع مراعاة المستجدات الحديثة في مفهوم “المال” الذي أصبح يشمل اليوم أشكالا متعددة من الأنشطة الاقتصادية لم تكن موجودة في السابق.
وأكد المجلس العلمي الأعلى أن “نطاق مفهوم المال قد اتسع في الواقع المعاصر”،مشيرا إلى أن الزكاة أصبحت تشمل ثمانية قطاعات رئيسية الفلاحة-الماشية-منتجات الفلاحة غير الحبوب-الغابات-الصيد البحري-التجارة-الصناعة والخدمات.
وأوضح المجلس أن هذه القطاعات تضم عشرات الأنشطة التي تدخل في حكم الأموال المزكاة ويمكن الاستئناس في ذلك بـالتصنيف المغربي للأنشطة الاقتصادية الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط والذي يضم أكثر من 600 نشاط اقتصادي،ما يجعل الزكاة تشمل اليوم طيفا واسعا من مصادر الدخل والإنتاج.
*بين الزكاة والضريبة: فرق في المقصد والغاية*
من بين النقاط التي ركزت عليها الفتوى،توضيح الفرق بين الزكاة والضريبة حيث شددت على أن الزكاة عبادة مالية يخرجها المسلم استجابة لأمر الله بينما الضريبة تفرضها الدولة مقابل الخدمات العمومية التي تقدمها.
وأكدت الفتوى أن الزكاة ليست مجرد أداء مالي،بل هي تطهير للنفس وتنمية للمجتمع مستشهدة بالآية الكريمة:
*خذ من أموالهم صدقة تُطهّرهمع وتزكيهم بها *(التوبة: 104)
كما أوضحت أن الزكاة تمثل آلية تضامنية أصيلة في الإسلام، تضمن إعادة توزيع الثروة بشكل عادل وتسهم في الحد من مظاهر الفقر والهشاشة داخل المجتمع.
*مصارف الزكاة في ضوء التحولات الاجتماعية*
استعرضت الفتوى مصارف الزكاة الثمانية كما وردت في القرآن الكريم وهي: الفقراء-المساكين-العاملون عليها-المؤلفة قلوبهم في الرقاب-الغارمون في سبيل الله وابن السبيل.
وأشارت إلى أن الأولوية في السياق المعاصر تعطى للفقراء والمحتاجين الذين يعانون من هشاشة اقتصادية مشيرة إلى أن مفهوم الفقر لم يعد تقليديا ،بل أصبح يقاس بالمؤشرات الإحصائية ومستوى المعيشة وفق معايير وطنية ودولية.
وبينت الفتوى أن بعض الأصنافمثل “العاملين عليها” أو “المؤلفة قلوبهم” قد لا تكون مطبقة حرفيا اليوم في السياق المغربي،بينما يظل دعم الغارمين والمشروعات ذات النفع العام “في سبيل الله” مجالا مفتوحا لاجتهاد العلماء في ضوء المقاصد الشرعية.
*زكاة الأنشطة الحديثة واجتهاد مفتوح*
أبرزت الفتوى أن التطور المالي والاقتصادي في العصر الحالي خلق أشكالا جديدة من الثروة مثل الاستثمارات والأسهم والمداخيل الرقمية وهو ما يستدعي اجتهادا فقهيا مستمرا لتحديد كيفية إخراج الزكاة عنها.
ودعا المجلس كل من لديه حالات خاصة أو أنشطة مالية مستحدثة إلى التواصل مع المجلس العلمي الأعلى عبر موقع إلكتروني سيخصص لذلك لتلقي الفتوى الخاصة بحالته.
وشدد المجلس على أن هذه المبادرة تأتي في إطار الاجتهاد المنفتح والمواكب للعصر،مؤكدا أن الزكاة تظل فريضة ثابتة لكنها قابلة لتنزيل مرن يتماشى مع تطور النشاط الاقتصادي والاجتماعي.
تعتبر هذه الفتوى محطة مهمة في مسار تجديد الفقه المالي الإسلامي بالمغرب،إذ إنها تربط بين الأصالة الفقهية والاجتهاد المقاصدي في ظل اقتصاد متغير.
فهي لا تقتصر على ضبط أحكام الزكاة فحسب بل تؤسس لفهم جديد لمكانتها كأداة عدالة اجتماعية وتنمية تضامنية في انسجام تام مع التوجه المغربي نحو ربط الدين بالتنمية تحت إشراف أمير المؤمنين الملك محمد السادس.



