الرئيسيةثقافة و فن

أنا و البقرة في صباح ماطر

قصة قصيرة/ محي الدين الوكيلي

في يوم ليس كأيامنا هذه، كان الجو ممطرا كما اليوم، صحيح أنه آنذاك كانت التساقطات أكثر انتظاما، و أكثر غزارة، لكن بقدر ما أتمنى هطولها الآن و كل يوم بقدر ما كنت أتمنى أن تجف آنذاك ينابيع السماء التي كانت تسكب من مياهها ما لم يكن لي و أقراني طاقة به.

كان يوما من أيام سنة 1976، كنت في السنة الثانية من التعليم الابتدائي، و لم يتجاوز بعد سني السادسة . كنت أدرس في مجموعة مدارس زكوطة و كنت أتنقل ما بين دوار بن الشيهب عند خالتي و عزيب سيدي المهدي عند أخوالي، كان اليوم يوم أحد من أيام فصل الشتاء، و فصل الشتاء آنذاك ليس هو فصل الشتاء اليوم، كان المطر يكاد لا ينقطع أياما إن لم تكن أسابيعا، و ظروف العيش في القرى لم تكن كما هي اليوم، لم يكن متاحا للجميع منازل تقي من غضب الطبيعة و هجوم السيول و الظروف المعيشية لم تكن آنذاك ترتقي لمتطلبات الشتاء، لم يكن متاحا للجميع الحصول على ملابس دافئة و جوارب صوفية و أحذية مواتية. كنا نكتفي بما وجد معتمدين على تحمل أجسامنا و إن كانت نحيفة و صلابة معنوياتنا التي كانت تستمد قوتها من صلابة الصخور المحيطة بالقرية.

لم تكن خالتي تملك حيوانات كثيرة، بالكاد بقرة و حمارة و بضع دجاجات و كلب يصلح نباحه كمنبه أكثر من أن تعتمد عليه في الحراسة. بعد تناولنا طعام الفطور طلبت مني خالتي أن أسوق البقرة إلي البساتين المجاورة للمنزل كي تقتات مما جادت به الأرض من نباتات و أعشاب. تفاجأت بالأمر، فالمهمة عادة هي مهمة ابنة خالتي التي تكبرني بعض الشيء . شخصيا و لحدود هذا اليوم كنت فقط أرافقها كلما طلبت مني ذلك  و كلما سنحت الفرصة. أما الآن ، الأمر يختلف كثيرا. انشغال ابنة خالتي بأمور ثانية وضعني في موقف لا أحسد علية، ليس فقط لأن المطر كان يهطل بغزارة، و ليس أيضا لان قساوة البرد تفوق بكثير قدرة اللباس الذي ألبسه في حمايتي و تدفئة جسدي النحيل، لكن بالأساس لأن محيط القرية كان مبعث خوف غير مفهوم لذي. ربما كان مصدر ذلك الحكايات التي كانت ترويها لي ابنة خالتي أمينة (التي كانت بمثابة الأخت الكبرى لي) أو أيضا لطبيعة هندسة القرية التي كانت عبارة عن منازل متناثرة هنا و هناك تفصل بينها بساتين الزيتون و التين. لم يكن بمقدوري أن أرفض، استسلمت لقدري و سقت البقرة حيث طلب مني أن أذهب بها، كان جسدي يرتعد من البرد و الخوف، و الأمطار تسمع دندنتها على الأشجار و النباتات كإيقاع “غرباوي” من إيقاعات “الهيت الخفيف”. بالمقابل كانت البقرة في أحسن ظروفها و أمتع لحظاتها، لأنها تحررت من القيد الذي كان يربط أقدامها وأيضا لكل الخيرات التي جادت بها الأرض أمامها. حاولت أن أرفع من معنوياتي و أطمئن نفسي، ليس هناك شيء يخيف، لا الإنس و لا الجن لهما مصلحة في الخروج في هذا الجو البارد المطير، كلما دبت الطمأنينة إلى نفسي كلما ذكرتني لسعات البرد أنها ليست نزهة مع بقرة خالتي الوحيدة و إنما هي لحظة من لحظات الزمن التي تمنى كل طفل أن يزيلها من شريط حياته البريئة. كان الوقت يمر طويلا علي، و كلما نظرت إلى البقرة تخيلت السعادة التي تنعم بها و هي تقظم بشراهة كل ما وجدت في طريقها من أعشاب. مضى الوقت و كأنه دهر، بدأت معنوياتي تنهار و بدأ القلق بدب إلى نفسي، حتى الطيور لم تكن تستطيع الشذي لتؤنس وحدتي، وحده الريح الذي كلما حرك الأشجار المحيطة بي كلما زاد من هلعي و خوفي، ثيابي أصبحت أكثر تبللا، و حذائي أصبح بركة صغيرة تسبح فيه أقدامي. في لحظة من اللحظات، خيل لي أنني أسمع حركة هناك، تسمرت في مكاني، كل حواسي في قمة الإستنفار مستعدة للتعامل مع أي خطر قد يظهر من هنا أو هناك، أو للدقة كنت منتبها حتى أستطيع أختيار الجهة التي سوف أطلق فيها ساقاي للريح هربا من الخطر المقبل، لحسن الحظ لم يكن سوى جحشا تائها ساقته أقدامه إلى هذا المكان. بعد أن هدأت و عاد إلي توازني، نظرت إلى رفيقتي البقرة، كانت لا تزال منهمكة في وليمتها، لم يكن باديا عليها لا الإهتمام بما يقع و لا أي رغبة في التوقف عن الأكل. عرفت حينها أن هاته المهمة المشؤومة لا يمكن أن تنتهي برضاء البقرة و تيقنت أيضا أنني لن أستطيع الصمود أكثر. رفعت عصاي في وجه البقرة التي بدى عليها نوع من الاندهاش، حاولت أن تعترض لكن ضربة خفيفة على ظهرها فهمت منها أن وقت العودة قد حان. ركبنا معا طريق العودة، و كلما اقتربت من المنزل كلما تبدد خوفي و عاد الهدوء إلى جسدي النحيف. وصلنا باب منزل خالتي، دخلت البقرة أولا و أنا من ورائها . كانت الجلبة التي أحدثناها كافية بلفت انتباه خالتي و أمينة، أطلت خالتي من مطبخها التقليدي “الكشينة”، كانت علامات الغضب بادية عليها:

– واش مشيتي تتسخر للقايد

من حدة صوتها و قسمات وجهها علمت أنني عدت قبل المدة المناسبة، نظرت إلى ابنة خالتي أمينة مستنجدا، لكن ابتسامتها الساخرة أفهمتني أنه لا مناص من العودة. جال بصري في جوانب المنزل فلم أجد أي حل سوى العودة إلى قدري المحتوم هذا اليوم، أنا و البقرة و الأمطار الغزيرة و مخاوفي التي لم تزد إلا تكاثرا .

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button