أخبارفي الصميم

هل سيلفني التغيير أنا أيضا؟

بقلم : مصطفى بوريابة/

بدأَت خطواته الأولى متثاقلة وهو يغادر بيته وعائلته ، انتابه إحساس بالرهبة وهو يغادر للمرة الأولى نحو وجهة مجهولة الحدود و الجغرافيا باحثا عن مستقبل مجهول ، وحاصره السؤال بإلحاح : إلى أين تمضي وحيدا؟ عيون دامعة تراقبه: أمه، و أخواته، رفقاء الطفولة، أهكذا تتآكل الروابط دفعة واحدة ممهدة الطريق لعالم جديد مجهول لا حيلة أمام الطفل المسكين كي يحقق ذاته؟ يتوارى الطفل رويدا رويدا عن الأنظار، مخلفا وراءه الكثير من التساؤلات، تاركا الأم الحنون والأخوات ، تترقرق الدموع في عيونهن، وفي حلقه غصة، تجتاحه رغبة جامحة، تدفعه دفعا كي يتقهْقر إلى الوراء، عائدا إلى وكره التليد، لولا مخافته ضياع فرصة تحقيق أحلامه، أحلامه المجهولة .

مصطفى بوريابة

خالف الصغير رغبته الجامحة، ولم يصغ إلى نداء هاجس الأعماق، فمضى كشراع يترنح وسط أمواج البحر، ولا يعلم على وجه اليقين أي مرفأ سيأويه. وفي محطة الإقلاع، كان ينظر إلى صورة أمه وهو يحاول كبح جماح دموعه أمام ما خزنه من لحظات حميمية مشبعة بالحب والحنان .

رحيل الطفل الحالم طرح العديد من الأسئلة بين العائلة حول تواريه عن الأنظار، أين يوجد؟ ماذا يفعل؟ ليس حبا فيه وانما فضول لمعرفة ما يفعله. توقفت الحافلة في محطة وجهته الجديدة ، وطأت رجلا الطفل أرضها العذراء، التي لم يزرها من قبل، كان برفقته أخ أمه الذي سيأويه ويقدم له المساعدة المعنوية والمادية لشهور طويلة في فترة كانت صعبة على الجميع، ظل يلتفت يمينا ويسارا ، كأنما يحاول أن يلم بكل ما تقع عليه عيناه، استعدادا لمقام طويل، عرف الآن نقطة بدئه، ولا يملك حيلة لمعرفة مجرياته ونهايته. هأنت الآن أيها الصغير تشق طريقك نحو الغد، وحيدا بلا أم ترعاك في النوم واليقظة، وبلا أخت تراقب حركاتك .

أنظر حواليك: لا رفقاء يواسونك، أنت متروك للغربة القاتلة، ما أعظم الهول! مصابك جلل، كيف بك دفعة واحدة في هذا العالم الصاخب الذي لا يرحم؟ أيّ قوة أقلعتك من عالمك الصغير القابع بين أحضان عائلتك الصغيرة؟

كان الخال مسرعا في خطواته، على أثره ظل الطفل يلهث كمن يسابق فرسا جموحا، إنها لحظات البداية التي تنذر بمشقة الطريق القابعة في رحم الغد، كل ما هاهنا ينذر بالشؤم، ما أضيق عالمك الجديد! نظر الصغير في جنبات المكان وكأنه يستطلع بعض ما خفي منه، ليس هذا ما كان يحلم به، لكن أجمل ما في هذا المكان الهدوء والراحة النفسية التي أصبح ينعم بهم في غربته.

وبعد أن أوهم الطفل نفسه بالاطمئنان إلى وضعه الجديد، راح يستشعر أفق الغد، حيث يومه الثاني في عالم جديد، غدا بداية رحلتك في هذا العالم الجديد ، ستمضي وحدك ودونما سند يؤازرك في غربتك، غير عناية الله ودعاء أمك ومن يحبونك بصدق.

انتهى الطفل من تأملاته، ويده تمتد لتزيل آثار العبرات المتبقية على وجنتيه، بدت ليلته الأولى من ليالي المدينة متباطئة، تنوء بثقلها على صدر الصغير فتحرمه النوم، ليعود ثانية إلى عالمه الوديع، فراح يقارن بين هذين العالمين: هنا الأضواء والضوضاء، وهناك الظلمة والسكون عالمان متناقضان، يقف الصغير الآن كجسر يربط بينهما و عيناه تحدقان في العتمة دون وعي منه، ولم ينتبه إلى العبرات الحارة تسيل على وجنتيه، تذكر الصغير أمه، الركن الحصين في رحلة الحياة، لا أحد يتفقدك في النوم، ولربما في اليقظة أيضا، أين الأنامل الناعمة التي طالما لامست جسدك الصغير، ترد الغطاء مخافة لسعة البرد القارس؟ كيف اختفى كل شيء دفعة واحدة؟ وغاب الطفل في تضاريسِ الأسئلة المعلقة، ولم ينتبه إلا حين إرتفع صوت المؤذن معلنا حلول الفجر، بدأ يهيئ نفسه للصلاة والعمل، وراح الصغير يتحسس مطلع النهار في عالمه الجديد، كل ما هاهنا يختلف عما أَلفه بين أحضان أمه، وتساءل في قرارة نفسه: عجبا كيف تغير كل شيء دفعة واحدة؟! ثم انتبه إلى نفسه، وأردف متسائلا ثانية: هل سيلفني التغيير أنا أيضا؟ كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحا، هنا ستنطلق رحلة الحالم الصغير نحو التغيير.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button