أخبارالرئيسيةثقافة و فنفي الصميم

المعالجة الفنية للتاريخ في الدراما التلفزية

بقلم: د. عزيز زروقي

لم يعد الشعر ديوان العرب، ولم يعد الزمان زمن الرواية، لكنه زمن الدراما التي دخلت كل بيت ليراها في وقت واحد ملايين المشاهدين، فيأخذوا عنها معارفهم وأفكارهم وتقاليدهم وعاداتهم لتصبح الشاشة الفضية هي الصفحة الكبرى لتدوين التاريخ الحديث والقديم في أذهان المتلقين عبر عشرات المصادر والمراجع والدراسات التي اعتمدها كتاب السيناريو، ومخرجوا المسلسلات التلفزيونية، والتماهي في الصدق الفني لدى الممثلين، ومحاكاة الواقع التاريخي في الأزياء واللغة وإدارة المعارك وإعادة صياغة الصراع وفقا لرؤية المخرج.

يجسد الانخراط في إخراج مسلسلات درامية راهننا العربي الإسلامي، والمساهمة في تفكيك أسئلة اللحظة التاريخية، أمرا لا يخلو من هواجس مردها جاذبية القرنين العشرين والواحد والعشرين التي مارست استبدادها على عموم مخرجي المسلسلات التلفزيونية، وأفرزت دراسات مرجعية، وأخرى استنساخية مكررة جعلت البحث التاريخي لا يتخذ مساره الطبيعي، ويقفز على مرحلة وطأة الاستعمار أو الحماية التي تركت رجة عميقة على مستوى البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنية داخل المجتمع العربي الإسلامي، وندوبا مشوهة في جسده، وخلفت وراءها أسئلة تاريخية كثيرة، وإشكالات مطروحة، دون أن يتمكن البحث التاريخي الخوض فيها.

يبدو هذا جليا في التأثير الذي فرضته مسلسلات تلفزيونية ك”صقر قريش” و “ربيع قرطبة” و “ملوك الطوائف”، نعتتها ب ” ثلاثية الأندلس”؛ مسلسلات ساهمت في رفع الحس العربي وترسيخ قيم الانتماء والهوية العربية، تناولت أحداثا تاريخية من خلال تجسيد عملية تذكرية، صورت الواقع وساهمت في تأريخ مراحل مهمة من الحياة العسكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والأدبية والعلمية والمذهبية والعقائدية…. وقد حققت ربما نجاحا كبيرا لأنها مارست دورا في نقل ما حدث على الشاشة، وقد كانت مسلسلات درامية مقنعة لأنها خاطبت عقل ووجدان المشاهد، حتى لو كانت هناك بعض التغييرات عن الواقع، فإنها تبقى في نطاق ضيق لا تؤثر في الأحداث الهامة، حيث سعت إلى إضفاء الطابع الدرامي مثل إضافة قصة حب، أو علاقة صداقة، أو اختيار جانب واحد من حياة البطل والتركيز عليه، رغم وجود تجاوزات جمة تشعر المتلقي بأن هذا العمل الدرامي غير تاريخي.

ألح (لوكاش جورج) Georg Lukács على أن العلاقة الحية بالحاضر يجب أن تعبر عنها حركة التاريخ نفسها، والعلاقة إذن موضوعية بشكل فني. وقد نبه كذلككتاب الرواية التاريخية إلى أن مطواعية المادة التاريخية، هي في الحقيقة فخ للسيناريست، والسبب أن عظمته بوصفه مؤلفا سوف يعتمد على الصراع بين نواياه الذاتية، والصدق والقدرة اللذين يرسم بهما الواقع الموضوعي، وكلما سارت نواياه الذاتية على نحو سهل كان عمله أضعف وأفقر وأكثر هزالا. الشيء نفسه نلمسه عند (هنري جيمس) Henry James إذ يرى أن الدراما التلفزية تمثل صورة للحياة، وتعكس انطباع الكاتب الشخصي، وأكثر من ذلك يجد في محاولتها تصويرا للحياة المسوغ الوحيد لوجودها. فهل يمكن للتلفزيون أن يؤثر على وعي المتفرج ويتحكم فيه؟

يرى الفيلسوف الألماني (تيودور أدورنو) Theodor W. Adorno أن المتلقي لا يستطيع في كثير من الأحيان التحرر من المنتوج التلفزي المعروض عليه في ظل وجود مؤسسات وأجهزة تصنع الأفكار. ويعتبر ( أدورنو)  Adornoأن المتفرج وهو يستسلم للتلفزيون وما يعرض على الشاشة، سيصبح فردا سلبيا متأثرا مكبلا بالشاشة. هنا يتم القضاء على الفردية والقدرة النقدية التحليلية للفرد لأنه يصبح أسيرا لهذه الصناعة الدرامية. يشير أيضا كل من في كتابهما “صناعة الثقافة: التنوير كخداع للجماهير” (لماكس هوركهايمر) Max Horkheimer و(تيودور أدورنو) Theodor W. Adorno إلى أن المؤسسات تتحكم في المنتج الإعلامي وتتحكم في وعي المتلقي، وهو ما يمكنه أن يسهم في خداعه. ويقول عالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) Pierre Bourdieu في كتابه “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول” أن التلفزيون شديد التأثير على المتلقي، ويمكن أن يتم استخدام الدراما التلفزيونية في تزييف وعيه، فيقوم التلفزيون بتأطير جانب معين من الواقع، وقد ينقل واقعا غير حقيقي، يجعل المتلقي لا يمتلك الوعي الكافي للتمييز بين الجيد والرديء.

فعندما تتم مشاهدة المسلسلات التلفزية، وخاصة المسلسلات التاريخية، لابد من إدراك أنه رغم أنها مجرد أداة للترفيه، إلا أنها تؤثر على الوعى والمعرفة بالتاريخ والحضارة. وإذا كان (تيودور أدورنو) Theodor W. Adorno و(ماكس هوركهايمر) Max Horkheimer قد تطرقا إلى التأثير الكبير للتلفزيون على الجماهير والقدرة القليلة للفرد للتحرر من المعروض أمامه على الشاشة، فإن المشاهد يظل على قدر كبير من الوعي والإدراك للأفلام والمسلسلات الدرامية المصنوعة بدقة مثل “ثلاثية الأندلس” والتي أقدم المتلقي على مشاهدتها مرات عدة على مدى عقود، وأصبحت تشكل وعي كثيرين لم يشاهدوا أحداثا هامة في التاريخ العربي الإسلامي.

هذا الوعي نفسه اشتغل عليه المخرج حاتم علي، واستغل أحداثه، واختار منه ما مثل امتدادا لواقعه أو حاضره، وذلك للفت النظر إلى قضايا المجتمع الراهنة، وإلى شحذ المتلقي إلى تلك الصلة التي تظل تشد الدراما التلفزية إلى الحاضر مهما سعت التوغل في الماضي. فقد تميز هذا الشكل التعبيري بأن له وجودا أقدم بكثير من العلوم الإنسانية التي نهضت بمجموعة كاملة من الوظائف والأدوار. شكل التاريخ مصدرا حيويا للدراما، إذ أتاح لها الولوج إلى حياة الماضي، ولإبراز هذه الأهمية يمكن أن تقدم الدراما مثالا لهذا النوع الذي يستقرئ حقبة من الزمن في مختلف تمظهراتها وتعابيرها. فالتاريخ والدراما يعدان بناءان لغويان استقرت لهما أشكالهما السردية، ولا يمتلك أيهما اليقين الكامل من ناحية اللغة أو البناء، كما أنهما يبدوان متساويين في مسألة “التناص”، أي استخدام نصوص سابقة في النسيج النصي المعقد لكل منهما. ففيها يتسنى للمؤرخ النبش في التاريخ، وغيره من حقول التاريخ المختلفة.

تسهل علينا الدراما التعرف على شبكات العلاقات واستراتيجيات الأفراد في نسج خيوط حياتهم. ويمكن للتاريخ أيضا أن يساعد على دراسة التطورات الحرفية والاقتصادية والتغيرات التي يمكن أن يعرفها الفرد ضمن سيرورة جماعية، حيث يكفي للتعرف على وظائف كل من التاريخ والدراما مشاهدة وقراءة المحكيات والسرود القديمة منذ الإلياذة والأوديسة Et L’Odyssée (لهوميروس) Homer، ومحكيات العصر الوسيط الإسلامي، وأدب الأزمنة الحديثة، وصولا إلى الزمن الراهن. “ففي كل هذه المحطات من التاريخ البشري تميزت الأعمال الدرامية قياسا على الخطابات الأخرى بالقدرة الكبيرة على النفاذ إلى ظلامية اللحظة المعيشة”، مما جعل الدراسات المعاصرة حول التاريخ والدراما تولي العناصر الجمالية في كتابة التاريخ اهتماما كبيرا لتشخيص الغرابة المقلقة التي تستبد بالفرد وهو يقود حياته بحثا عن أصالة تلك الغرابة التي يتعذر على الخطابات الفنية الأخرى سبر أغوارها.

فمن هنا فالدراما ليست مجرد خزان أو مصدر، وإنما هي حقل أساس للمشتغل على الدراما التلفزيونية، لأنه يستطيع أن يقول الشيء الكثير عن الماضي. وفي المقابل فإن استحضار الماضي وشخصياته ووقائعه وتوظيفها من خلال رؤية فكرية وفنية متعمقة وراقية لا ينفي عن الدراما صفة الراهنية. فثلاثية الأندلس الذي تدور وقائعها في التاريخ الماضي ليس عملا تاريخيا تسجيليا يروي وقائع التاريخ الأندلسي، وإنما هي توظيف للمادة التاريخية بصياغة خطاب فكري وسياسي وإنساني وفني وجمالي حديث موجه إلى متلق من التاريخ الماضي، والذي قد أتيح له أن يعبر حاجز الزمان إلى عصرنا، ليشاهد مسلسل “صقر قريش” ومسلسل ” ربيع قرطبة” ومسلسل ” ملوك الطوائف” إلى جانب مشاهد راهنة. فأيهما سيكون أقدر على تذوق العمل الدرامي واستيعاب خطابه ورسالته؟ إنه متلق اليوم القادر فعلا على تلقي مفردات العمل الفني واستبطان دلالتها وإشاراتها على خلفية وعيه المعاصر.

على الرغم من حب الإنسان الشديد للماضي بكل ما فيه من تفاصيل وخبرات الذي هو ملك للتاريخ، والتاريخ حافظه، نجده غالبا ما يعزف عن قراءة كتب التاريخ، ويملأ الحياة بين صفحات هذه المراجع المملوءة بالحشود الهائلة من الأحداث المملة والأخبار المتشابهة، لاسيما أن أكثر المؤرخين قد يجيدون جمع الأخبار ومقارنتها والاستنتاج منها، ويعرضونها عرضا قد يكون مملا يغري الناس بالزهد في كتب التاريخ والوقوف على حوادثه وأخباره. والعنصر الفني لازم في الاطلاع على التاريخ، والشعور بالحاجة إلى هذا العنصر الدرامي الذي ساعد على ميلاد الدراما التلفزيونية التاريخية.

لعل سلسلة الانهزامات والانكسارات العربية من جراء الاستعمار الأجنبي والحروب الداخلية والانشقاقات السياسية وبروز الطائفية والإقليمية فرض الالتفات إلى الماضي للتذكير به واستحضاره والدعوة إليه. فشعور أي أمة باهتزاز شخصيتها الاجتماعية، واضمحلال ازدهارها بسبب أو آخر يدفعها إلى نبش في الماضي، وفتح سجلاته الناصعة لإيجاد حل لمأزقها الحالي ورفع معنوياتها. لما يفرض استعادة الذات الضائعة، باكتشاف معنى الاستمرار في شيء ما أو الانتماء إلى شيء ما يبدو قد ضاع إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button