
بقلم: ياسر راشدي اليعقوب
لم يكن القرار الأخير لمجلس الأمن مجرد تجديد روتيني لولاية بعثة المينورسو، ولا إعادة صياغة لعبارات دبلوماسية مألوفة، بل شكّل إعلاناً صريحاً عن نهاية مرحلة وبداية عهد جديد في تعامل المجتمع الدولي مع ملف الصحراء المغربية.
لقد تحول النقاش من السؤال النظري الذي شغل العالم لعقود:”هل يمكن حل قضية الصحراء؟”، إلى السؤال العملي الجوهري: “كيف سنحقق هذا الحل؟”.
هذا التحول في صيغة السؤال ليس مجرد تلاعب لفظي،بل يعكس تحولاً عميقاً في الوعي الدولي. وكما رأى الفيلسوف الألماني هيغل، فإن التحدي الحقيقي ليس في فهم العالم فحسب، بل في تغييره. العالم اليوم لم يعد يقنع بتشخيص الأزمة، بل يطالب بآعالية حلها، وقد أدرك أن الحل الواقعي الوحيد القابل للتحقيق يتمثل في مشروع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
لقد أكدت المسيرة الطويلة أن شرعية الواقع تتغلب على الشعارات المجردة. فبينما ظل خصوم المغرب يرددون شعار “الاحتلال” على مدى عقود، كانت المعطيات الميدانية تعمل على إعادة تشكيل المفاهيم.
القانون الدولي نفسه لا يساوي بين الأرض والشعب،ولا يجعل من تقرير المصير مرادفاً للانفصال، بل يقر بإمكانية تحقيقه عبر صيغ الحكم الذاتي التي تحفظ كرامة الإنسان واستقلالية قراره في إطار سيادة الدولة. هذا هو لبّ مشروع المغرب، الذي حول الأقاليم الجنوبية إلى نموذج حي للتكامل بين التنمية والمشاركة. فمنذ إطلاق المبادرة الملكية لتنمية الصحراء، أصبحت هذه الأقاليم وجهات اقتصادية واستثمارية جاذبة، ومراكز فاعلة في المشهد الوطني، تشهد تحولاً عمرانياً وثقافياً غير مسبوق. المشاركة السياسية الواسعة في الانتخابات، وتنوع النخب المحلية، وتطوير البنية التحتية، كلها عوامل جعلت من خطاب الانفصال مقولة بالية.
وفي الجانب المقابل، يعيش سكان مخيمات تندوف مأساة إنسانية تتعارض مع كل المواثيق والأعراف الدولية. محرومون من حرية التنقل، رهائن لصراعات سياسية، ومحكومون بالصمت. المخيمات التي نشأت باسم “القضية” تحولت إلى فضاءات للعزلة والقمع، في مشهد يذكر بمقولة توماس هوبز عن “حياة الفطرة”: منعزلة، بائسة، همجية، وقصيرة.
تقارير المنظمات الدولية تشير بوضوح إلى اختلاس المساعدات الإنسانية،وقمع الحريات، واحتجاز آلاف البشر في ظروف لا إنسانية. في مواجهة هذا الحصار، تفتح الأقاليم الجنوبية أبوابها للعالم، تستضيف المستثمرين والبعثات الدبلوماسية، وتبني يوماً بعد يوم واقعاً جديداً يستعصي إنكاره.
القانون الدولي نفسه يتجه نحو تأكيد شرعية هذا النموذج. فمشروع الحكم الذاتي المغربي ليس استثناء، بل هو امتداد لممارسات دولية رائدة في إدارة التعددية داخل الدول. تجارب إسبانيا وإيطاليا وكندا تؤكد أن الحفاظ على الوحدة الوطنية لا يتعارض مع منح صلاحيات موسعة للأقاليم. المغرب قدم مبادرة متكاملة تحترم مبدأ السلامة الإقليمية وتضمن للسكان إدارة شؤونهم المحلية بحرية. إنها صيغة عصرية لتقرير المصير الداخلي، توائم بين الحرية والسيادة، وتمنح الأقاليم حق المشاركة في القرار ضمن إطار وطني موحد، محققةً ما سماه كانط “السلام الدائم”.
الجزائر، التي سعت لعقود لتقديم نفسها كطرف محايد، وجدت نفسها اليوم في صلب المعادلة. القرارات الأممية الأخيرة لم تعد تكتفي بوصفها كـ”دولة مجاورة”، بل تشير صراحة إلى مسؤوليتها السياسية والقانونية. إيواؤها وتسليحها ودعمها لجبهة انفصالية على أراضيها يمثل خرقاً واضحاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ويعرضها لمساءلة أخلاقية ودبلوماسية متصاعدة. وكما قال نيلسون مانديلا، “لا يمكن بناء حرية البعض على أنقاض حرية الآخرين”. ومعاناة سكان المخيمات هي الثمن الإنساني المباشر لهذا القمع المستمر، الذي يخدم حسابات إقليمية بالية أكثر مما يخدم قضية إنسانية.
ومع ذلك، فإن الجمود الذي تحاول الجزائر والبوليساريو فرضه لا يوقف المسيرة، بل يعززها. فبينما يراهن البعض على التعطيل، يواصل المغرب البناء على الأرض حقائق جديدة كل يوم: حقائق ديمغرافية واجتماعية من خلال جيل جديد من أبناء الصحراء المنخرطين في الحياة الوطنية، وحقائق اقتصادية عبر مشاريع كبرى تجعل من العيون والداخلة منصات للتجارة والربط الإفريقي، وحقائق دبلوماسية تجسدت في افتتاح أكثر من خمس وعشرين قنصلية لدول من إفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية، وهو اعتراف عملي بالسيادة المغربية. الاعتراف الأمريكي الرسمي شكّل بدوره لحظة حاسمة في مسار النزاع، حيث لم يعد ممكناً الحديث عن “نزاع مفتوح” بل عن مسار في طور التسوية.
قد يحاول البعض إطالة عمر الأزمة، لكن من الجلي أن المشهد الإقليمي والدولي يسير في اتجاه حتمي: نهاية النموذج الانفصالي، وبداية ترسخ الحل الواقعي. ما نشهده اليوم هو تماماً ما وصفه أنطونيو غرامشي حين قال: “القديم يموت، والجديد لم يولد بعد”. بين هذا الاحتضار وتلك الولادة، يكتب المغرب فصلاً جديداً في تاريخه، عنوانه الصبر والرؤية والإنجاز. وصحراويو المهجر، الذين حملوا هويتهم إلى العالم، يمكن أن يكونوا الجسر الإنساني والرمزي الذي يعيد صياغة الرواية بعيداً عن لغة الانقسام.
لم يعد السؤال اليوم هو إن كانت الصحراء مغربية، فقد أصبح ذلك بديهية سياسية ودبلوماسية، بل متى وكيف سيتم تفعيل مشروع الحكم الذاتي على الأرض بشكل كامل. لقد انتقل الملف من منطق “الصراع” إلى منطق “الهندسة”، من الجدل حول المبدأ إلى النقاش حول الآليات. والمغرب، بثباته وبصيرته، أثبت أن قوته لا تنبع من قدرته على المواجهة، بل من قدرته على البناء والتحمل. وكما قال المهاتما غاندي، “القوة الحقيقية تكمن في القدرة على الصبر”. المغرب صبر عقوداً على المناورات، لكنه ظل يبني، ويقترح، ويؤمن بأن الحقائق الميدانية هي التي تصنع التاريخ. واليوم، في الأقاليم الجنوبية، يُكتب هذا التاريخ بلغة التنمية والمشاركة والاندماج، بينما تتراجع الأساطير القديمة أمام نور الواقع، وتذوب الشكوك تحت وطأة إرادة شعبٍ اختار أن يكون جزءاً من وطنه الأم، المغرب.



