
بقلم/ إدريس الكتاني (سفير سابق)
سألني يومه أحد الأصدقاء الذي قرأ الحديث الذي نشرتُه مؤخّرًا على مذكّرتي حول الأوضاع الحالية بسوريا الشّقيقة، والذي أشرت فيه إلى العلاقة الخاصّة التي كانت تربط بين الرئيس حافظ الأسد وصاحب الجلالة الحسن الثاني رحمه الله، فكان جوابي كالتالي:
“دخل مكتبي أواسط سنة 1970 أحد الأصدقاء الأوفياء الذين أعتز بأخوّته رحمة الله عليه، فقلت له: أينك يا هذا، لم تأتِ لزيارتي منذ أكثر من شهرين؟ “
للعلم فقد تعرّفت على هذه الشخصيّة السياسية البارزة بمقرّ سكن الحاجب الملكي آنذاك المرحوم علي بنيعيش، والذي سبق أن طلب مني أن أمدّ يد المساعدة لهذه الشخصية في إطار تعليمات صاحب الجلالة، وهو ما تعهّدت بفعله بمجرد موافقة رئيسي المباشر في وزارة الصّناعة آنذاك؛ أيْ: المرحوم محمد بلخياط الكاتب العام للوزارة.
وهكذا كنت أقدّم لصاحبنا هذا في آخر كل شهر رخصة استيراد بضائع معينة غير مصنّعة بالمغرب تُمكِّنُه من دخلٍ مناسبٍ لسدّ جزء من حاجياته العائليّة.
ففي تلك المرحلة كنت أعمل مساعدًا لمدير الصّناعة، مفوّضًا من طرف الوزير بالتوقيع على رُخَص الاستيراد والتّصدير في إطار سياسة الحماية للصناعة الوطنية؛ إذ لا يُسمح باستيراد أيّ مادّة تُصنَّع بالمغرب. فكان جوابُ تلك الشخصية المرموقة كالتالي: “كنت بالقاهرة واستُقبِلتُ من طرف جمال عبد الناصر”، فاندهشتُ لكلامه أيّما اندهاش. تخيّلواْ معي في تلك المرحلة، أيْ: أوائل السّبعينات، كانت لجمال عبد الناصر مكانةٌ مرموقةٌ.
فسكتُّ في استغراب، ففهِم مخاطِبي أنّني لم أثق بكلامه فأضاف، وهنا بيت القصيد، :
- “كما زرتُ حافظ الأسد”
- فقلت: من يكون هذا؟
- قال: هذا ليس معروفًا حاليًا بالمغرب، فهو وزير الدّفاع بسوريا، وقد جئتُ لأخبرك أنت بالضّبط بفحوى هذا الموضوع علمًا منّي أنّك إطارٌ من الدولة بعيدٌ عن السّياسة؛ لأجعل منك شاهدًا مُحايدًا على ما سأرويه لك.
- فقلت: إذًا ما هو هذا الخبر؟
- فكان جوابه الغريب كلّ َالغرابة، والذي لا يمكن توقّعه، كالتّالي:
- “عند زيارتي للسّيد حافظ الأسد وزير الدّفاع السّوري أخبرني أنّه سيقوم بانقلاب عسكريّ بعد أربعة أشهر، وأنّه بمجرّد تمكّنه من السّلطة سيقوم بوضع حدٍّ للأنشطة التي تقوم بها المعارضة المغربية في سوريا تحت قيادة الفقيه البصري منذ أوائل السّتينيات.». ثمّ أضاف أنّه سيُعيد ربط العلاقات الدبلوماسيّة مع بلادنا في أقرب الآجال.
يا للغرابة!! لقد كان صاحبُنا يحكي لي، وهو لا زال واقفًا، وكان بابُ مكتبي مفتوحًا كالعادة، حيث الكاتبة تسمع والنّاس المنتظرون أمام مكتبي يسمعون، وكأنّه يحكي قصّةً من “ألف ليلة وليلة.”
أعترفُ أنّ كلّ الاحترام والتّقدير الذي كنت أُكِنُّه لصاحبنا هذا تبخّر في ثوان، فكيف أُصدِّقُ أنّ إنسانًا متزنًا وهو يخطّط لانقلاب عسكريٍّ سيعلن عنه بكلّ هذه البساطة لأيٍّ كان، وسيقوم هذا الأخير بإخباري وأنا قد أرفع الخبر لإنسان آخر. شيء لا يُصدَّق!!
وأمام دهشتي قال: “أعرف أنّك لم تصدِّقني، وكذلك الشّأن بالنّسبة لكبار المسؤولين الذين أبلغتُهم بهذا الخبر، فأنا أطلب منك شيئًا بسيطًا وهو الانتظار لمدّة أربعة أشهر قبل الحكم النّهائي على كلامي، وإنْ صحّ هذا الخبر أرجو من أخوّتك أن تكون شاهدًا على هذا الحدث. “
هكذا وتمرّ الأيام وقد نسيتُ هذا الموضوع، أو تناسيتُه لتفاهته!
وذات ليلة وأنا متواجد بمقرّ سكن الحاجب الملكيّ آنذاك المرحوم علي بنيعيش؛ إذ كنت أسهر معه بانتظام ضمن مجموعة من الأصدقاء، فإذا بالهاتف الخاصّ يرنّ وإذا بالحاجب الملكيّ يعود إلينا؛ ليقول: ” واللهِ كلام صاحبنا أصبح صحيحًا وواقعًا؛ لقد أخبرني صاحب الجلالة الآن أنّه علم بانقلاب عسكريّ بسوريا، وعندما رجع للتّوقيت وجد أنّه حدث بالضّبط في حدود الأربعة شهور التي أعلن عنها صاحبنا. (للتّذكير حدث هذا الانقلاب المعنون بـ ـــ “التّصحيحي” بتاريخ 13 نوفمبر سنة ألف وتسعمائة وسبعين). وما هي إلا بضعة أسابيع، حتى سيُربَط الاتّصال بين المسؤولين، ويتمّ إعادة فتح العلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين.
وتجاوبًا مع هذه المواقف المفاجئة من السّلطات السّورية آنذاك، سيقوم المغفور له الحسن الثاني، عندما طُلِب منه المساهمة في تهيئة حرب أكتوبر 1973 بإرسال تجريدة عسكريّة لسوريا. تلك التّجريدة التي ستشارك في الحرب ببسالة مشهودة حيث استُشهِد العديد من أفرادها بقيادة الجنرال بوكرين، والعقيد الطيار محمد الزرقاوين، والعقيد عبد القادر العلام رحمة الله عليهم.
أقصّ هذه الواقعة للتاريخ؛ لأنّ بطلها رحمة الله عليه اختارني؛ لأكون شاهدًا محايدًا على وقائعها. وها أنا ذا أُدوّنها لأوّل مرة إسهامًا مني في إثراء المعطيات والتّحليلات المتعلّقة بأحداث سوريا الأخيرة، لا مؤيّدًا أو متعاطفًا مع هذا الرئيس السوري المستبد.



