أخبار سريعةمجتمع

من الهامش إلى المركز: تأملات في قصة نجاح الصحفي بول العربي

د. مهدي عامري

كان الناس، ولا يزالون، يختلفون في نظرتهم إلى الفئات الهشّة، ويتفاوتون في تصورهم للواجب نحوها: فمنهم من يراها عبئًا ثقيلًا على المجتمع، ومنهم من يجد فيها مرآة لحضارته وأخلاقه، بل امتحانًا لقيمه ومبادئه. أما أنا — وإن كنت واحدًا من هؤلاء الناس — فقد استوقفتني قصة بول العربي، ذلك الطالب الذي عانى في صمت، وتحمل في كبرياء، حتى بلغ ما أراد، فصارت حكايته نبراسًا لكل من شاء أن يعتبر.


د. مهدي عامري
كاتب وأستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال

إن بول العربي لم يكن شابًا عاديًا، بل كان مثالًا حيًّا للفئة التي نسميها «الهشّة»، وهي التسمية التي ربما تخفي وراءها ما هو أعمق وأشد بؤسًا من ظاهرها: العزلة، والصمت، والضعف، ومقاومة التهميش. ومع ذلك، رأينا بول العربي الذي يعاني منذ صغره من التثلث الصبغي، ينتقل بخطوات ثابتة من السنة الأولى في المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط إلى السنة الثالثة وينال الإجازة في الصحافة، متحديًا صعوبات لو وقعت على كاهل غيره لانهار تحت وطأتها.

وهنا، يحسن بنا أن نعود إلى الحديث الشريف الذي رواه النبي ﷺ: “أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين”، مشيرًا إلى إصبعيه. فإذا كان هذا القول قد خُصص لليتيم، فهو في روحه ومقصده يسري على كل مستضعف في الأرض، وينسحب على كل روح كسرتها الأقدار لكنها لم تيأس ولم تستسلم. فالقيمة الجوهرية هنا هي الكفالة: الرعاية، والاحتضان، والدعم، والحق في التعليم.

وقد كان بول العربي من هؤلاء الذين تطلبت رعايتهم بالمعهد العالي للإعلام والاتصال روحًا تربوية عرفانية، ترى في التربية رسالة لا مهنة، وفي العلم خلاصًا لا شهادة، وفي الإنسان قيمة مطلقة لا وسيلة ولا غاية نفعية. فالتربية الحقّة لا تُقاس بعدد الكتب التي يحفظها الطالب، ولا بعدد الامتحانات التي يجتازها، بل بقدر ما تنتشل إنسانًا من الهامش وتعيده إلى قلب الحياة.

إن قصة بول العربي عنوان للصمود والانبعاث، وهي تستوقفني لأشكر إدارة المعهد وأساتذته الطيبين الأجلاء الذين كيفوا دروسهم مع الوضع الخاص لبول العربي، وجعلوها ميسورة الفهم وفي المتناول.

هذه القصة الملهمة تعلمنا أن الرعاية ليست إحسانًا يُقدم من علٍ، بل هي فعل مشاركة: في الألم وفي الأمل؛ فالاثنان وجهان لعملة واحدة. ومن المؤكد أن الأساتذة الذين التفوا حوله — وكنتُ واحدًا منهم، وأرجو من العلي القدير ان اكون قد أديت واجبي المهني بإخلاص وأمانة ودون أدنى رياء… اللهم آمين — بالإضافة إلى الإدارة التي احتضنته، لم يفعلوا ذلك تفضلًا أو ترفًا، بل لأنهم فهموا أن دورهم يتجاوز إلقاء المحاضرات وإعداد الامتحانات، إلى بناء النفوس وتضميد الجراح الخفية التي لا تراها العين المجرّدة.

ولا ريب أن بول، حين نال تشجيعهم واحتضانهم، كان في الوقت نفسه يُعلّمهم درسًا عظيمًا: ” مولانا يجعل عظمته في أضعف خلقه”. وهذا يعني أن الإنسان، مهما كان ضعفه، قادر على أن ينهض إذا وجد اليد التي تمتد نحوه بإخلاص، والعين التي تراه لا كرقم في السجلات، بل ككائن له حق في الأمل والحياة والنجاح.

إن في هذه القصة ما يجعلنا نتساءل: كم من بول آخر يعيش بيننا في صمت؟ كم من شاب تائه يحتاج إلى من يدلّه على طريق النور؟ وكم من فتاة مهمشة تحتاج إلى من يؤمن بقدرتها على النجاح؟ إنها أسئلة موجعة، لكنها واجبة. لأن التربية، في جوهرها العميق، ليست إلا هذا الوعي الصادق بالآخر، والإحساس بمسؤوليته، وتقدير معاناته، والعمل على انتشاله من العزلة والهامش.

ومن هنا، فإن مسؤولية المؤسسات التعليمية في بلادنا لا تقف عند حدود تلقين العلوم والمعارف، بل تتعداها إلى صنع معنى الحياة لتلك الفئات التي قد تظل محبوسة خلف أسوار الحرمان واليأس. ولقد أثبتت قصة بول، بلا أدنى شك، أن النجاح ليس قدر الأصحاء وحدهم، بل هو أيضًا ثمرة بيئة حاضنة، ومحيط مشجع، ومؤسسة واعية بمهمتها التربوية والاجتماعية والإنسانية.

ولعل خير ما نختم به هذه التأملات هو القول بأن بول العربي ليس حالة فردية، بل هو رمز لمعركة أكبر وأشمل: معركة رعاية الفئات الهشّة، وصناعة الأمل في النفوس التي ظلت طويلًا على الهامش. وإذا كانت هذه القصة قد انتهت ببول إلى النجاح، فإنها في الحقيقة لا تمثل النهاية، بل هي البداية: بداية وعي جماعي، بداية التزام أخلاقي، بداية مسار تربوي متجدد يضع الإنسان في قلب كل سياسة وكل مؤسسة.

و بالتالي، فإن ما نستخلصه هو أن هذه القصة ليست شعارًا نظريًا، بل هي ممارسة حقيقية تُحسن قراءة الحاجات الخفية للأفراد، وتُدرك أن المساواة الحقيقية تبدأ من الاعتراف بالاختلافات، ومنح كل ذي حق حقه، وكل ذي موهبة فرصة للظهور والنمو والتألق.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button