أخبارالرئيسيةثقافة و فن

دور الحركة المسرحية في تصحيح نظرة المستعمر للمجتمع المغربي

لا يهمنا أن نتحدث بإسهاب عن النظرة التي كان ينظر إليها المستعمر للمجتمع المغربي وكيف يجسدها سياسيا واجتماعيا وثقافيا.. بقدر ما نريد إثبات المعطيات والظروف العامة التي كانت مؤثرة في تلك النظرة بشكل جلي وواضح في المجتمع، والحركة الثقافية بصفة عامة، وفي الحركة المسرحية بصفة خاصة.

وانطلاقا من ذلك يمكن القول أن الاستعمار عندما وضع قدمه في المغرب اعتمد سياسته المعروفة (فرق تسد)؛ سياسة فيها إذكاء النزاعات العنصرية، والروح القبلية.

بقلم: د.عزيز زروقي

وكان لابد له من إضفاء طابع الشرعية عليها في شكل قوانين وقرارات، ورغم ما بذله المستعمر من جهة، وما التجأ إليه من أساليب القمع والاضطهاد. فقد كان ظهير 16 مايو 1930م الشرارة التي ألهبت النفوس، ووحدت كل القوى الوطنية، وجعلتها صفا متراصا في وجه الاستعمار.

لقد سجلت كتب التاريخ الانتفاضات الشعبية والمقاومة المسلحة صمود المغاربة، ودفاعهم عن قوميتهم وكيانهم وهويتهم. يقول الدكتور إبراهيم السولامي: “ازداد غليان المناطق المغربية بعد المصادقة على معاهدة الحماية.

وقد توالت الثورات وألوان التمرد القصيرة الأجل منذ إعلان الحماية إلى سنة 1934م، وهو تاريخ آخر معقل مغربي في الصحراء”.ففي مطلع العصر الحديث، وجد المجتمع المغربي نفسه ينعطف صوب مراحل جديدة من التاريخ على الصعيد الحضاري، فهو مجتمع متخلف وفي مأزق، منقطع عن زهوه الحضاري، وهو في حالة ركود وفوضى معيقة لأي طموح. وإذا كانت سنة 1912م تؤرخ لبداية الحماية، فإن سنة 1930م تعمق تلك الهوة السحيقة بذلك الظهير المشؤوم.

يبدو أن وثيقة الاستقلال توضح الموقف السياسي من هذه الوضعية، فلقد كانت الحرب العالمية الثانية ما تزال مشبوبة الأدوار، وجنود الاحتلال الفرنسي تخيم بظلها الثقيل على كل بقعة من بقاع الوطن، وإلى جانبها تجثم جيوش الحلفاء استعدادا للانطلاق إلى غزو أوربا.

كان سيف الأحكام العرفية مسلطا على رؤوس جميع المواطنين الذين كان آلاف منهم يعانون ويلات التشريد والاعتقال، كما سيق الآلاف منهم إلى ميادين القتال، لا دفاعا عن حريتهم، ولكن دفاعا عن حرية مغتصبيهم.

وكانت السلطات الاستعمارية تعتقد أنها قد قضت على “الحركة الوطنية” التي كانت قد نشأت في هذه البلاد، فأصبحت لا تتوقع أن يوجد بين المراكشيين في هذا الوقت من يستطيع أن يرفع صوته مطالبا بحق بلاده في الحرية والاستقلال، ولكن الحدث الذي وقع يوم 11 يناير 1944م جاء مخيبا لآمالها، كما جاء برهانا على أن جذوة الحرية ما تزال متقدة، بل إنها أقوى توهجا من أي وقت مضى. كانت سنة 1953م بداية محنة جديدة للمغاربة بعد نفي سلطان البلاد محمد بن يوسف، فمن الأمور التي سبقت قرار المنفى وعجلت به هو أن الملك الراحل محمد الخامس رفض مرة أن يوقع على بروتوكول فرنسي، مضمونه كان قاتلا “للحركة الوطنية” وللإرادة الشعبية أيضا.

وهنا بدأت محنة السلطان محمد بن يوسف مع الفرنسيين. فقرر في خطوة ذكية ألا يوقع بالخاتم السلطاني الشهير، واكتفى بكتابة عبارة “صار بالبال”، لكي يقول لفرنسا بطريقة ملكية أنه لم يمنح موافقته على البروتوكول، لكنه اطلع عليه. وقد عرضت القضية المغربية على الأمم المتحدة، إذ أن الإدارة الفرنسية تعمدت منذ أن انتقلت هذه القضية إلى الميدان الدولي، أن تنزل بالشعب المغربي ضربات قاسية انتقاما منه.

يقول الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله: “إن من أهم العوامل التي كانت تحفظ التوازن الصحي؛ انعدام الخمور والأمراض التناسلية، مع تمكن صفة القناعة من معظم السكان لاسيما في البداية، والقناعة أخت الحمية، والحمية رأس الدواء، ولكن الدسائس التي بدأ الأجانب يحبكونها بقوة واستمرارها خلال القرنين قد أثرت في عوائد البلاد فشاع الترف، وانتشرت المواخير في طي الخفاء، وكثر البغاء، وعمت أمراض داخلية لم تكن معروفة من قبل، فتضخم عدد الوفيات”.

حتى ولو كانت هناك طبقة من المثقفين الغيورين على هذا الوطن، فلقد عمل المعمر على إبهارهم بحضارة أوربا، التي لا تتماشى مع ركب التقدم الحضاري والاقتصادي والثقافي المغربي.أكد إبراهيم حركات، أنه إلى عهد متأخر نسبيا من الحماية كانت السلطة تسمح إما مجاراة لبعض الطوائف، أو رغبة من الحماية في تأكيد تخلف المجتمع المغربي بقبول ممارسات من طرائق دينية ليست من عقائد الإسلام في شيء. وهكذا ففي بعض المدن يخصص (رابع عيد المولد النبوي) “للعيسويين”، الذين يفترسون اللحم نيئا بدمائه، وتتبعهم في ذلك طائفة “اكناوة”، وفي (سابع العيد) يقوم “الحمدوشيون” بشخد رؤوسهم بالحديد، فتسيل دماؤهم ويمرون “كالعيسويين”، هكذا في موكب في أزقة المدينة على مشهد من السكان.

عمل الاستعمار على محاربة كل إحداث للمدارس الحرة، لأنها بوثقة ستنطلق منها روح نشر الوعي السياسي والديني، والوطني والثقافي، كونها ستكون تحت إشراف قادة الحركة الوطنية، وبالتالي ستحارب الاستعمار عن طريق نشر العلم وإعادة الاعتبار للغة العربية، التي بذلت الجهود الجبارة لطمسها بمختلف الأساليب.

بالطبع كانت تخوفات المستعمر الفرنسي في مكانها، فالمدارس الوطنية الحرة عملت على أن تعيد للمواطن المغربي ثقته بلغته وتاريخه، وأصالة تقاليده من جهة، وأن تتكلف بتقديم مسرح وطني يخدم القضية الوطنية الأم، ويكون بديلا للمسرح الاستعماري من جهة أخرى، والذي ركز على ترويج اللغة الفرنسية والدارجة. إذ أخذت الفرق المسرحية منذ نشأتها على عاتقها أن تحارب الطرقيين والمشعوذين كأشخاص، وبعض العلماء المسلمين والفقهاء، كما جاء في كتاب ” إقامة الدليل على حرمة التمثيل” لأبي الفضل أحمد بن الصديق، وقد قضت الضرورة في هذه الأيام إلى الاجتماع ببعض هؤلاء والمذاكرة معه في شأن منكر التمثيل، الذي ابتلي به المسلمون بسبب الاستعمار الفرنسي، واستفحل أمره مع الجهل، وقلة المرشد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. بل انعدامه، حتى صاروا يمثلون كبار العلماء والأولياء.

فهذا الموقف أو مواقف أخرى التي تلتها في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ المسرح المغربي، لا شك أنها كانت تنعكس على الناس، خصوصا وأنه كان يخاطب إحساسهم الديني، ويؤكد خطابه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، ويبدو أن تأثيره كان واردا. كما يشير إلى ذلك المقال الذي نشر “بمجلة الإسلام”، بأن المستعمر نفسه كان يصرف المسرحيين عن المسرح لخطورته، وما كان يشكله من واجهة نضالية، وليبعد الجمهور أيضا الذي بدأ يرتاد المسارح ويتابع العروض المسرحية، ويعلن عن إعجابه ورضاه من إمكانيات هذا المسرح في التعبير عن قضاياه، وكل مشاكله.

لم تثن هذه المواقف عزيمة المسرحيين، وتبعدهم عن مجالهم الفني والمسرحي، بل زادت في استماتتهم بالمسرح وإيمانهم بمواهبهم وقدراتهم. ومن جهة أخرى فالموقف الذي تحدثنا عنه لم يكن موقفا عاما، “فالكثير من العلماء والفقهاء والقضاة كانوا قد تابعوا “مسرحيات قدماء تلاميذ ثانوية مولاي إدريس بفاس”، و”مولاي يوسف بالرباط ” و”فرقة سلا” وغيرها، ويمكن أن نشير إلى بعضهم من خلال مراسلة من المراسلات التي تابعت هذه العروض المسرحية: شاهدنا من بين الحاضرين الأديب المكي الصبيحي، وبعض أدباء العدوتين الكتاب المقتدرين؛ محمد الناصري، وصنوه جعفر ومحمد الأوراي، ومحمد السايح وغيرهم من الأدباء والعلماء”.فإذا كانت نظرة المستعمر للمسرح المغربي نظرة توجس وتخوف، فإنها عملت على أن تكون البلاد بأسرها لا تتوفر إلا على قاعتين بلديتين للمسرح “بالبيضاء والجديدة”. أما القاعات فما كانت يوما لتصلح للمسرح، فضلا عن كون الحصول عليها يستلزم دفع كراء باهظ، مما يحول دون تقديم الأعمال المسرحية وإنجازها. “وبطبيعة الحال فإن المسارح المغربية لم ولن تكون رهن إشارة المسرحيين المغاربة، بل كثيرا ما كان الترخيص لهم بعرض مسرحية من المسرحيات صعبا وشاقا وأحيانا بعيد المنال.

ويمكن أن نعود في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، إلى الرسالة التي وجهها البشير العلج إلى مدير “جريدة العلم” والتي يشرح فيها ظروف وملابسات عرض مسرحية “العقاب”، والتي لم تعرض رغم مجهوداته واتصالاته المتكررة “. أمر آخر يوضح أن تشييد المسارح في هذه المرحلة كان الهدف منه خدمة مصالح السلطة المحتلة، وبالتالي لتكون رهن إشارة الفرق الأجنبية الزائرة، وليكون مسرح المغاربة هو: “الدور” – “الساحات العمومية” – “الحدائق” – “البوادي” – “الأسواق” – “الهواء الطلق”… والتي هي كذلك تمنع وتوقف، كمسرحية “دماء الشهداء” التي قدمتها فرقة “التمثيل البيضاوية” سنة 1945م بعد تقديم “وثيقة الاستقلال”، وهي مسرحية قد بادرت قوات الاستعمار لتوقيف العرض قبل نهايته، واعتقال الممثلين، وتشتيت المتفرجين، مع العلم أنها عرضت في الهواء الطلق، بعد رفض الترخيص بعرضها على خشبة المسرح.ومن ثم عمل المستعمر جادا على أن تكون المسارح في المغرب لخدمة ما هو في صالحه، مما دفع بالمسرحيين المغاربة يعتزون بالساحات العمومية الكبرى والدور، ويعتبرونه مسرحا له أهمية في (التواصل والتبليغ والدفاع) عن قضية أساسية، هي بث الوعي وتحرير الإنسان المغربي من القيود والأغلال، وخاصة المرأة، وإقحامها في التمثيل وتدريبها وتكييفها مع الجو المسرحي.

إذ كان المستعمر ينظر للمرأة المغربية سلعة تباع وتشترى وبعيدة كل البعد عن فن التمثيل، فكان المسرحيون يستغلون ظهور بعض الممثلات في الإعلانات ويظهرونهن في الملصقات، ويعلقون على ذلك في الجرائد والمجلات ويصفونهن “بأجمل الصفات”، وبقدرتهن على الأداء والتمثيل، وعلى عبقريتهن في الفن المسرحي، كمسرحية “ضحية العلم” التي شاركت فيها فاطمة المنذرية. التي يلقبونها بجوهرة المسرح ومارية حسين التي يلقبونها بالممثلة الفذة… وهي إشارات تدل على أهمية الممثلات وقيمة مشاركتهن في العمل المسرحي.

إن دراسة أو تفحص ميزانية المجالس البلدية يدل على خبث نوايا المستعمر، حيث نجد في جدول أعمال هذه المجالس، تخصيص إعانات للفرق وهبات للجمعيات، وفي كل سنة تنتظر الفرق التمثيلية نتيجة هذا الاجتماع لترى حظها من هذه الميزانية الضخمة. فترتد خاسئة يائسة لا يتعدى حظها أصفارا وإهمالا، وأنها تقرر لفرق وهيئات أجنبية، إعانات ضخمة تساعدها على حفظ كيانها، وتطوير أساليبها وتحسين وسائلها.

عانى الشعب المغربي من ويلات سياسة المستعمر الجائرة كما ذكرنا، ولم يقف عند هذا الحد، فقد استعمل أساليب أخرى تقف حاجزا أمام النهضة المسرحية التي استعانت بمسرحيات اجتماعية وتاريخية، ومن التراث ومن الدين الإسلامي الحنيف، حيث استغلت الهزل كستار في معالجة قضايا جادة، ورد الاعتبار إلى الإنسان المغربي المقهور المغلوب على أمره. فأصبح المستعمر يلاحق المسرحيين ويزج بهم في السجن، كما حدث مع محمد القري الذي عذب حتى الموت. وأغلق المدارس الحرة، وعمل على تكريس الشتات العربي والمغربي والتربص لتحركات الوطنيين، وأنشطتهم السياسية والثقافية وللمخرجين المسرحيين والرقابة على نصوصهم، ويغلب فرقة مسرحية على أخرى، ويضرب فرقة بأخرى، وكان سدا منيعا ضد اللغة العربية. إذ وطن للفرنسية وحتى العامية ضد العروبة والقومية، وكان يسعد عندما تتشتت أعضاء الفرق المسرحية أو حينما يصيبها الركود.

كل العروض المسرحية يعتبرها المعمر وسيلة لالتقاء الوطنيين لتمرير بعض المنشورات أو الرسائل أو تبادل الرأي والمشورة، وتقديم التعليمات والأوامر من القادة، لذلك كان المستعمر يعتمد على الوسطاء والإخباريين وبعض الأعيان، لقطع أي قناة تواصلية بينهم، فالمسرح عندها (المستعمر) هو تلك الكوميديا الفرنسية، ولاسيما (المولييريات) Molières Les أو مقاطع مسرحية قصيرة للأجانب المقيمين بالمغرب، تهدف إلى الإشادة بفرنسا وتاريخها وأمجادها وتقاليدها والترفيه عن جاليتها، إذ تتكفل بأداء واجب الديكور والملابس وغيرها لكل فرقة مسرحية، حتى المغربية، التي تخدم مصالح فرنسا.كانت الدارجة ديوان المغاربة الشعبي غير المكتوب ومخزن علومهم وآدابهم وتجاربهم، وكان رواة تراث هذه اللغة حفظة لكنوز لا تقدر. ورغم كل هذا الغنى الذي كانت تختزله الدارجة المغربية، فإنها لم تكن في بداية الأمر تحظى في برامج الحركة الوطنية باهتمام كبير، لأن برامج الأحزاب كانت تركز في ذلك الوقت على إصلاح أحوال الشعب وتثقيفهم وتعليمهم، والنهوض به فكريا واجتماعيا وأخلاقيا قصد إعداده لمرحلة الاعتماد على النفس. لم تكن هذه المهام ممكنة في نظر التيارات الوطنية إلا باللغة العربية، أما الدارجة فكان ينظر إليها بنوع من التنقيص، باعتبارها لغة الشعب الضعيف الجاهل.

بعد سنوات من القمع والحرب الشديدة أصبح للحركة المسرحية نشاط قوي صادف فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصارت لها خطة سديدة لا تتمثل في الاعتماد على النخب المتعلمة وحدها، وإنما تتمثل في تعبئة المغاربة بكافة شرائحهم قصد توحيد البلاد، والسير بها نحو الاستقلال.

فنشطت “الكشفية” و”التنظيمات النسائية”، و”المدارس الحرة العربية” ودروس محو الأمية للكبار، وكانت الفرق المسرحية تعبر بالعربية الفصحى عن اختيار واسع وحس قومي قوي…. أما الدارجة فدخلت بدون ضجة إلى التمثيل، ونذكر من أجود الأمثلة في هذا الصدد عددا من الأعمال الأولى التي قدمها أحمد الطيب العلج … كمسرحية (المعلم صالح)، وهي مسرحية هزلية قصيرة استمدها الفنان من حالة المجتمع المغربي حينئذ، ومن توجيهات وأنشطة الأحزاب الوطنية ثم مسرحية (الحاج بناصر، رئيس الغرفة التجارية) وهي مسرحية أخرى بالدارجة تتسم بالتحريض، وينتقض فيها الواقع السياسي بالبلاد، ويفضح زيف المؤسسات العمومية في عهد سلطة الحماية، وقيامها على الغش والتدليس من أجل خدمة مصالح الدولة الاستعمارية.

بطبيعة الحال فقد أبانت الفرق المسرحية عبر ممارستها اليومية، بفضل مسرحياتها الكوميدية والمأساوية والتراجيدية والهزلية، عن تميزها بأن يقبل عليها الجمهور بكثافة وأن تشد انتباهه وتخامر مخيلته وتفكيره، ليعي ما عليه من مسؤوليات اتجاه هذا الوطن المغتصب، وتسعف في انتقاد تلك النظرة الحاقدة والعيوب الاجتماعية، التي ما فتئ المعمر إذكاءها، وتوجيه الناس وبث الوعي والتوعية، وبسط نماذج بشرية اجتماعية لتمرير صور وحالات اجتماعية سائدة.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button