Hot eventsأخبارأخبار سريعةعين العقل

الباحث في القانون… بين هيبة المنهج وسمو الرسالة

بقلم الاستاذ/ مولاي الحسن بنسيدي علي

ليس كل من ولج بوابة القانون باحثًا فيه، فالبحث القانوني ليس مهنةً تُمارس، ولا شهادةً تُعلَّق على الجدران، بل رسالة علمية وسلوك حضاري يتجلّى في الفكر والقول والعمل.
الباحث في القانون إنسانٌ قبل أن يكون دارسًا، يزن الكلمات بميزان الحكمة، ويتحرك في فضاء الفكر بروحٍ يسكنها التأني والعمق، لأن القانون في جوهره ميزان عدلٍ لا يحتمل الغلوّ ولا التسرّع.
الباحث الحقّ حذرٌ في ألفاظه، متزنٌ في مواقفه، دقيقٌ في أحكامه. لا ينساق وراء المظاهر البراقة، ولا تستهويه شهرة زائلة أو مدحٌ عابر. إنه يقدّس الأمانة العلمية، فلا يقتبس دون توثيق، ولا ينقل دون تحليل، بل يعيد صياغة المعارف في ضوء المنهج، ليصوغ من النصوص فكرًا، ومن الفكر معرفة، ومن المعرفة أثرًا.
وفي سلوكه، ترى القانون في ملامحه قبل كلماته.
أنـيـقٌ في هندامه، راقٍ في لغته، رصينٌ في منطقه، وديبلوماسيٌّ في تعامله.
يستمع أكثر مما يتكلم، ويزن كلماته كما يزن القاضي حجج الخصوم في ميزان العدل، لأنه يدرك أن هيبته العلمية لا تُكتسب بالصوت المرتفع، بل بالفكر الرصين والخلق المتزن.
أما في عمله العلمي، فالباحث القانوني لا يترك الفكرة سائبة، بل يُخضعها للمنهج العلمي الصارم. يضع الفرضيات، ويناقش حيثياتها، ويستخرج النقاط القانونية بدقةٍ متناهية. يقارن بين التشريعات والاجتهادات، ويُبرز مكامن القوة والقصور، يركز على أهمية بحثه والهدف منه، يدافع عن مضامين رسالته بالحكمة والمعرفة القانونية وبحياد تجرد، ثم يبلور إشكالية البحث بلغةٍ استفهاميةٍ أنيقة تشد القارئ وتستفز فضوله، لتجعل من البحث رحلةً فكريةً نحو الحقيقة لا مجرد عرضٍ للمعلومات.
ولأن البحث لا يكتمل إلا بخاتمةٍ تفتح الأفق، فإن الباحث المتمرس ينهي دراسته بتوصياتٍ عمليةٍ نابعةٍ من خبرته وفكره، مستندًا إلى منهجٍ علميٍ رصين، لا إلى نزوةٍ شخصيةٍ أو رأيٍ عابر. فهو يدرك أن البحث القانوني ليس تجميعًا، بل إبداعٌ مؤسس على الدقة والالتزام والمنهج.
وفي هذا الطريق، لا يمكن للباحث أن ينسى أثر الأساتذة الكبار الذين جمعوا بين عمق العلم ونُبل الخلق، وبين الدرس الأكاديمي والإشعاع الإنساني.
لقد كان لأساتذتنا الأفاضل الأستاذة الدكتورة سوسن إسماعيل العساف، والأستاذة الدكتورة ايمان قبارئ، والأستاذة الدكتورة إيناس الضمور، والأستاذة الدكتورة سامية زقوران، والدكتور مالك الشوبكي، والدكتور بابكر علي حسن، والدكتور محمد أحمد البشير، والدكتور حسين حموي، والدكتور عبد الكريم الوزان، فضلٌ كبير في ترسيخ القيم العلمية، ودعم مسيرة البحث، وبث روح المثابرة واليقين في طريق المعرفة.
من مجالسهم تعلمنا أن القانون ليس نصوصًا فحسب، بل فكرٌ راقٍ ومنهجٌ قويم وسلوكٌ نبيل، وأن الباحث الحقيقي هو من يُزاوج بين العلم والتواضع، وبين الجِدِّ والرحمة، وبين الدقة والمروءة.
إنهم أساتذةٌ تركوا فينا أثر القدوة قبل أثر الكلمة، فكانوا مناراتٍ على درب البحث العلمي، وغرسًا في تربة القانون لا يذبل.
وبفضل دعمهم وتشجيعهم، أدركنا أن الرسالة الأكاديمية لا تُختصر في الشهادة، بل تمتد إلى خدمة المجتمع وتنوير الفكر وصون العدالة.
رحلة الباحث في القانون رحلة في سعة الصدر ورحابة الفكر وحب الإنصاف، فالقانون ليس نصوصًا جامدة، بل حياةٌ تُبنى على العدل والتوازن. ومن هنا، كان الباحث القانوني ضمير العدالة الصامت، الذي ينير العقول قبل أن يصدر الأحكام.
وقد تعلمنا من أساتذتنا في الدراسات العليا أن الباحث الحقّ هو من يجعل من العلم أخلاقًا، ومن البحث عبادة، ومن الحقيقة مبدأ لا يُساوَم عليه.
فبالعلم تُبنى الأمم، وبالقانون تُصان الحقوق، وبالباحثين المخلصين يستقيم ميزان العدالة في عقول الناس وقلوبهم.

….
مقال أهديه الى كل باحث مهتم

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button