
اليوم أصبحت المعلومة ذات أهمية حيوية ومورد استراتيجي لا يقل أهمية عن الموارد الأخرى ، فالمعلومة أضحت هي أساس جميع القرارات السياسية والاقتصادية والعلمية وكل من يمتلك المعلومات وأنظمة معلومات متطورة ويستخدمها بشكل جيد فهو حتما يمتلك القوة، وهذا ما أكده كل الخبراء في مجال المعلومات وفي المجال المعرفي حيث يتوقعون أن حروب المعرفة والعلوم هي حروب المستقبل، لأنها حروب السيادة والسيطرة والقوة والتأثير والحضور العالمي.
ومن هذا المنطلق يمكننا القول أننا أصبحنا اليوم نعيش في عالم متغير، عالم يختلف اختلافًا كبيرًا عما كان عليه من قبل، عالم يتميز بغلبة المعلومات والاتصالات، إنه عالم التكنولوجيا وتقنيات المعلوميات المتقدمة والتكنولوجيا العالية، عالم يتطور نحو قواعد المعلومات بدل القواعد العسكرية ونحو شبكات الاتصالات بعيدة المدى التي توفر المعلومات لجميع الأفراد الموجودين في هذا العالم.
وهنا يمكننا الحديث عن أخر تقنية للاتصال والتي أصبح الكل متفقا على أنها المستقبل الذي يجب أن يصل إليه الجميع، وأن المتحكمين بها سيتحكمون في العالم بكل أبعاده الاقتصادية والجيوسراتيجية والأمنية، إنها تقنية الجيل الخامس للأنترنيت 5Gآخر جيل في الاتصالات المتنقلة.
من هنا نتساءل من سيربح هذا الرهان من الدول العملاقة ولمن ستكون الكلمة الأخيرة في هذا السباق نحو تملك تقنية الجيل الخامس من الانترنيت؟ هل هي الصين أم أمريكا أم أوروبا؟وقبل الإجابة على هذه الأسئلة لابد أن أوضح في البداية أهمية هذه التقنية وطبيعتها.
إن الجيل الخامس 5Gهو تقنية حديثة من الانترنيت وتعد الأحدث بعد الأربعة أجيال سابقة، وهي تخضع لسنة التطور التي لا تتوقف، ف5G أسرع من 4G ب 100 مرة على الأقل وقد تصل ل 1000 مرة، بمعنى أنك تستطيع بواسطتها تحميل أفلام عالية الدقة بثوان قليلة، كما أنها ستوفر سرعة تبادل البيانات اللازمة لإجراء العمليات الجراحية عن بعد وتعزز اقترابنا من عالم “انترنت الأشياء” “Internet of things IoT” الذي يتصل فيه منزلك بحاسوبك، وهاتفك بسيارتك، وساعة يدك بنظام الدولة الصحي، وكل ذلك يتصل بنظام الرقابة للدولة.
باختصار هي من سيجعل من الانترنيت أقوى وأشد سيطرة ورقابة من أي وقت مضى، وستستعملها يوما ما لكنك لن تستطيع المنافسة في صناعتها بسهولة لأنها عالم العمالقة فقط! وحتى العملاقة يحتاجون لكثير من الوقت والجهد والمال والاقناع قبل أن يتمكنوا من امتلاكها.
إن استعمال الجيل الخامس لن يحتاج وصلات من أي نوع لهاتفك أو سيارتك أو حاسوبك، لكن ذلك لا يعني أنك ستتصل بالأقمار الصناعية بل الاتصال سيكون ببنية تحتية ضخمة من الهوائيات الأرضية، لذلك يقال عنها في شكلها المادي إنها مزيد من تأريض الانترنيت وذلك لأنها تعمل بنطاق الموجة الراديوية القصيرة وليست الطويلة مثل 4G، ولكن الموجة القصيرة لديها مشكلتان:الأولى أنها تغطي مسافات قصيرة تصل ل300 متر، والثانية أن أي حاجز طبيعي أو من صنع البشر يمكن له أن يقطعها بسهولة، فحتى الأمطارمثلا تستطيع امتصاصها، ولحل هذه المشكلة لابد أن يتم إنشاء المزيد من الهوائيات(الموزعات اللاسلكية)، وأن تكون هذه الموزعات أصغر حجما، وأكثر قربا من بعضها بعض وأعلى قدرة على نقل البيانات.
وهنا يكمن السؤال الكبير، من يستطيع صناعة البنية التحتية اللازمة للتقنية الجديدة؟ الجميع يريد الدخول في المنافسة على مد شبكاتها، غير أن ذلك صعب ولا يمكن حتى لغالبية الدول القيام به فهو يحتاج لاقتصادات ضخمة لشركات ضخمة، لذلك تشتعل تنافسية محمومة بين الشركات الكبرى لدخول السباق وإقناع الدول المتخوفة على أمنها الرقمي، وما يزيد من حدة هذه المنافسة هو ارتباط شبكة الجيل الخامس ارتباطا وثيقا باقتصاد انترنيت الأشياء”Internet of things IoT” الذي تقدر قيمته التجارية ب12 تريليون دولار، وهذا الرقم المهول يدفع حوالي 50 شركة حول العالم للمنافسة عليه.
وبهذا ظهرت المواجهة بين محور الصين ومحور الغرب على من يتملك المستقبل، في الواجهة نجد أسماء شركات أما في الباطن فأنت أمام الصين وأمريكا وكوريا الجنوبية وأوروبا وغيرها، لكن ما يميز الصين عن غيرها أنها سبقتهم بمراحل وصرفت مئات المليارات الدولارات للفوز بالصدارة، ويقول البعض أنها لا تريد أرباحا فحسب بقدر ما تريد مزيدا من السيطرة على بيانات العالم بأسره، فأنت عندما تستخدم ال 5G فأنت تدخل في عالم انترنت متشابك تماما أكثر بكثير من الماضي، باختصار كل المعلومات تنتقل عبرها وإلى كل مكان وبفضل التقدم الذي تحرزه الصين والوصول لأكبر عدد من البلدان تكون قد وضعت اللبنات الأولى للسيطرة على المستقبل.
الصين تمتلك شركة”Huawei” التي تسيطر على ما يناهز 30 إلى 40 بالمئة من حجم السوق وتنسب لها 15% من نسبة براءات الاختراع ولديها أيضا شركة “ZTE” التي تعد من الشركات المتقدمة جدا، فهاتين الشركتين تشكلان الترسانة الصينية في صناعة معدات الاتصالات حول العالم.في الواقع إن الشركات الصينية توفر عروضا مغرية للدول وهي: السرعة في التنفيذ، السعر الرخيص، ودعونا نقل الكفالة أو الضمان، لذلك سيجد منافسها نفسه أمام معضلتين، الأولى أنه لا يستطيع المنافسة في الأسعار والثانية أنه لا يستطيع السباق مع الزمن للوصول للتقنية بدون الصين، كما أن الصين توفر له البديل الرخيص لكنه في نفس الوقت غير آمن، فما العمل؟ هنا استيقظت أمريكا متأخرة وكانت Huawei و ZTE قد بدأتا بمد شبكات5G على أراضيها، فخرجت مؤسسة الأمن القومي الأمريكية” National Security Agency NSA” لتشكك في أن الشركات الصينية توفر لحكومتها قدرة ما على الوصول لبيانات الشركات والمستخدمين المتعاملين معها، وأنها تخفي في أنظمتها مفاتيح قاتلة تستطيع إعاقة أنظمة الاتصالات في حال وقوع حرب، وتلا ذلك إعلان الحضر الأمريكي للشركات الصينية من مد خطوط 5Gعلى أراضيها وعلى رأس هذه الشركات Huawei ، وهذا الحظر رافقته دعوة للحلفاء عامة والأوروبيين خاصة لاتباع النهج نفسه، لكن الغرب ليس على نمط تفكير رجل واحد، فقد استجابت أستراليا للدعوة الأمريكية وحظرت Huawei ، لكن بعض الدول الأوروبية كانت تنظر لترامب بعيون مشككة ولسان حالها يقول: “أنت تريد لأمريكا وحدها أن تصبح عظيمة وحربك مع الصين لمصلحة أمريكا وليس حرصا على اوروبا”، وفي يناير 2020 أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستسمح باستخدام معدات Huawei بنسبة 35٪ من شبكة 5G الخاصة بها، وقد كان قرارا مفاجئا وصادما، مما جعل فورن بوليسيFOREIGN POLICY تتوقع أن يدفع قرار بريطانيا دولا أوروبية كبرى أخرى لاتخاذه خصوصا أن الاتحاد الأوروبي يعد بأن عام 2025 سيشهد التغطية الكاملة للجيل الخامس في جميع المناطق الحضرية وعلى طول مسارات الطرق الرئيسية على كل أراضيه.
وكما سبق وقلت فإن الصين في الوضعية الأقوى بخصوص هذه الصناعة كما أنها تقدم أسعارا منافسة وتنفذ بسرعة وتضغط أحيانا تحت شعار: “إذا حظرتم شركاتنا فسنحظر شركاتكم أيضا”، وهنا مثلا لا تريد مصانع السيارات الألمانية أن تخسر سوقها الصيني، لكن يبقى الانفتاح الاقتصادي الأوروبي على الصين لا يعني أن الاوروبيين سينفتحون عليها رقميا، فهم يجدون أن النظام في الصين هو نظام استبدادي من الأعثى والأشرس ولا يتناسب مع روح الديموقراطية التي يعتزون بها، كما أنهم يفتقدون الثقة في النظام الصيني ويومنون أنه لن يقول الحقيقة يوما كما فعل مع فيروس كورونا. إن كل دول الاتحاد الأوروبي ترجح إلى ضمان أمنها السيبيراني عبر التعاقد مع الشركات المحلية بشكل أساسي، وقامت بعضها بفرض قيود قومية على مد شبكات 5G وفضلت أن يكون ذلك عن طريق تنويع مزودي الخدمة وإشراك القطاع الخاص المحلي وذلك بغية التحكم أكثر في الشبكات والمعدات.
إن توجه المقاومة هذا في حقيقته توجه لكثير من الدول الفاعلة، فالهند مثلا تحاول جاهدة أن تبقي هذه التكنولوجيا أصيلة ومحلية وآمنة على مبدأ ” صنع في الهند”، غير ان التمويل يقف عائقا أمامها. وبالمقابل فالكثير من الدول لا تشارك في الصراع القائم على 5G من الأساس لكنها سوق جيد له.من جهة أخرى، وحسب وكالة الأنباء رويترز فترامب منزعج جدا من التقارير التي تشير إلى أن Huawei تشارك في بناء جزء من البنية التحتية في شبه الجزيرة العربية ويريد أن يبعد الصين عن قواعده العسكرية هناك، لذلك وجه تهديدا لدول الخليج العربية على لسان ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط بقوله: “عليكم الاختيار: أمريكا أم الصين؟”وهنا يطرح السؤال، لماذا أمريكا المتأخرة تهاجم الصين بدلا من تسويق خدماتها؟ إن العديد من الشركات الأمريكية تنتج برمجيات الجيل الخامس الأكثر تقدما غير أنها لا تصنع جميع الأجهزة اللازمة للبنى التحتية الرقمية، فعلى المدى المنظور لن تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية قدرة تنافسية عالمية رغم محاولتها التعاون مع NOKIA و ERICSSON وممراستها ضغوطا على شركات الاتصالات المحلية مثل CISCO و ORACLE كي تبدأ بتصنيع أجهزة البث الراديوي وتدخل لاقتصاد ال 5Gمن أوسع أبوابه.
كما قام مجلس الشيوخ بإقرار ميزانية تقدر بمليار دولار لمستخدمي Huawei وZTE الحاليين كي يقوموا باستبدالها بشركات أمريكية ، كما تسعى اليوم الولايات المتحدة الأمريكية لانفاق 275 مليار دولار أمريكي للبحث وتطوير الجيل الخامس مع تشكيل تحالف 30 شركة عملاقة للتكنولوجيا جلها أمريكية تحت إسم “أوبن ران بوليسي كواليشن Open RAN Policy Coalition ” والهدف من هذا التحالف هو إنشاء أنظمة 5G مفتوحة وقابلة للتشغيل المشترك لمنافسة شركةHuawei . وعلى رأس هذا التحالف شركة GOOGLE وMICROSOFT وIBM، AT&T وVODAFONE بالاضافة إلى QUALCOMM و Intel و SAMSUNG.
إن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى هي وحلفاؤها لتحقيق هدفين أساسيين في سباقها مع الزمن، وهما أن توفر اكتفاءها الذاتي وأمنها السيبيراني القومي وأن تلعب دورا أبعد عن حدودها في مد هذه الشبكات ومنافسة الصين، وحتى الظروف التي يعيشها العالم المتعلقة بانتشار فيروس كورونا لم يوقف هذا الصراع بل هنالك تزايد في وثيرة المنافسة عليها بين العمالقة.
لقد حققت الصين اليوم تفوقا ملحوظا لكن لا أحد يعرف لمن ستكون الكلمة الأخيرة، وغالبا ما ستكون المعركة أمنية وتجارية وسياسية وربما عالمية باردة، حيث يراها ترامب “وجودية” وتراها الصين “منافسة غير عادلة”، وكذلك لن يكون بالإمكان إيقاف زحف تقنية الجيل الخامس الصينية على الأسواق العالمية، وخصوصا في الدول الناشئة غير الديموقراطية، وهذا على الأرجح ما سيدفع الدول العربية للتفكير كثيرا قبل أن تتجاوز الإرادة الأمريكية حتى لو جاء ذلك على حساب بذلها مزيدا من المال ومزيدا من الوقت، أما أوروبا فلن تبدي العداء للصين ولن تحظر شركاتها علنا، لكنها ستذهب للسباق مع الولايات المتحدة الأمريكية برغم كل الخلافات مع ترامب، لأنه رغم أن الصين تمتلك أدوات ضغط تجارية على الأوروبيين غير أنها ليست بحجم الأدوات الأمريكية التي يمكن أن تشتعل الحرب مجددا حتى وإن كانت هذه المرة حربا باردة، أو حرب البيانات.



