عندما تغلب التفاهة على العقل ننتج مجتمعا فاشلا

عندما سئل الكاتب الروسي “أنطون تشيخوف”: كيف تكون المجتمعات الفاشلة؟ أجاب: “في المجتمعات الفاشلة ثمة ألف أحمق، مقابل كل عقل راجح، وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية. تظل الغالبية بلهاء على الدوام، ولها الغلبة دائماً على العاقل.
فإذا رأيت الموضوعات التافهة، تعلو في أحد المجتمعات على الكلام الواعي، ويتصدر التافهون المشهد، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل جداََ.”
فعلا، هذه هي الصورة النمطية التي أصبحنا نعيشها يوميا تسللت إلى حياتنا اليومية حتى دخلت بيوتنا، فأصبحت عادات وسلوكات اجتماعية من الصعب التغلب عليها، الأمر الذي أكده “آلان دونو” في كتابه”نظام التفاهة”، حيث شرح كيف أن المؤسسات والنظم الحديثة تشجع على تعميم التفاهة عن طريق مكافأة الأشخاص الذين يلتزمون بالقواعد السطحية ويتجنبون التفكير النقدي أو التحديات الفكرية.
فمختلف النظريات، تشير إلى أن تعميم التفاهة ليس ظاهرة عرضية، بل ظاهرة اجتماعية تنتج عن عمليات اجتماعية وثقافية عميقة، وتؤكد على دور القوى الاقتصادية والسياسية في تشكيل الثقافة وتوجيهها، فضلا عن أنها تشدد على أهمية التفكير النقدي والمقاومة الثقافية لمواجهة هذه الظاهرة.
فالنظرية النقدية ل “مدرسة فرانكفورت”، ترى أن وسائل الإعلام والثقافة الشعبية تستخدم كأدوات لتشكيل الوعي الجماهيري بطريقة تجعل الأفراد يتقبلون الواقع السائد دون نقد أو اعتراض، مما يؤدي إلى تعزيز القيم السطحية والتفاهة.
أما “مجتمع ما بعد الحقيقة”، فيشير إلى المرحلة التي يُصبح فيها الرأي الشخصي والمشاعر أكثر تأثيرا من الحقائق والأدلة، وتُسهم هذه الظاهرة في شيوع التفاهة، حيث تُستبدل القيم الفكرية بقيم سطحية تعتمد على التأثير اللحظي.
في المقابل يقول “مانويل كاستلز” في مفهوم “مجتمع الشبكات”، إن التطور الذي عرفه الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، جعل القيم السطحية تعرف انتشارا واسعا. حيث أصبحت المنصات الرقمية تُشجع على الانتشار السريع للمحتوى البسيط، مما يعزز تفاهة الخطاب العام.
قد يستغرب البعض عن تفشي هذه الظاهرة، ويتساءل عن العوامل التي أسهمت في انتشار التفاهة. أولا، التأثيرالسلبي لوسائل الإعلام والتواصل التي ابتعدت عن وظيفتها الأساسية المبنية على التثقيف، وأصبحت دورا جوهريا يتمثل أساسا في تشويه قيم المجتمع وتشجيع الأفراد على السعي وراء الشهرة الزائفة، مما أسهم في نشر ثقافة التفاهة، حيث أصبحت بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تقوم بصناعة وتصدير بعض التافهين، وتصورهم على أنهم نجوم وقدوة للشباب.
ثانيا، تسييس التفاهة، بمعنى إقحام هذه الشرذمة من التافهين خصوصا بعض صناع المحتوى في مجال السياسية. ففي الوقت الذي كان لزاما على السياسي أن يؤدي دوره ووظيفته خصوصا في مجال تأطير الشباب من خلال برامج عمل جادة ومسؤولة وهادفة، نجده ينفق وبسخاء مئات الملايين لإنتاج برامج تافهة والهروب من الواقع، حتى المحتوى التافه أهم من كل شيء الأمر الذي أدى إلى زعزعة ثوابت المجتمعات وقيمها وأخلاقها.
إضافة الى عوامل أخرى مثل ظاهرة الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، التي أدت بكثير من الناس الى البحث عن وسائل وأدوات للهروب من ضغوطات الحياة اليومية، مما قد يجعلهم يتبنون سلوكيات تافهة..
اليوم في واقعنا المعيش لا نستغرب في تفشي وانتشار “ظاهرة التفاهة”، التي لها كما سبقت انعكاسات سلبية على هويتنا وقيمنا. فحين تجد القنوات التلفزية تبث سهرات لتافهين وتستقبلهم في البلاطوهات وتقدمهم كقدوة للشباب، فلا داعي للاستغراب.
وحين يقوم السياسي وينفق أموالا طائلة على صاحب “محتوى” تافه لعرض وتقديم برنامجه الحزبي والسياسي والانتخابي بل يقحمه في مجال السياسة، فلا داعي للاستغراب.
وعندما تقوم هيئة بحفظ شكايات ضد التافهين، بدعوى حرية التعبير، فلا داعي للاستغراب كذلك.
اليوم، اختلط الحابل بالنابل، فأصبحت التفاهة هي الأصل والقاعدة، وباتت القيم هي الاستثناء، فإلى متى سنستمر على هذا الحال..؟



