الأيام البيضاء

✍️ د. مهدي عامري
يقول الراوي :” لم أعد أذكر متى بدأ هذا الشعور الرمادي يتسلل إلى روحي، كما يزحف الضباب إلى نافذة باردة في صباح شتوي.
شعور لا اسم له، لكنه يسكن داخلي كضيف لا يطرق الباب. أعود إلى البيت كل مساء منهكًا من العمل، لا أرغب في الحديث، ولا حتى في الإصغاء. أدخل إلى البيت لأعيش موتًا صغيرًا، يتكرر كل ليلة.
أفتح التلفاز، وأتنقل بين القنوات دون تفكير. أخبار القتل، الدمار في كل مكان، الخيانة والغدر. غزّة تُسحق أمام عينيّ، والعالم يتفرّج. كيان الشر المطلق، كما أسميه في داخلي، لا يكتفي بالقتل، بل يريدنا أن نصفّق له ونبارك له القتل المتسلسل.
بعض العرب يهرولون إلى أحضانه، كأنهم يجهلون التاريخ ولا يعرفون متى يحين دورهم.وكان من عادتي أن أسأل نفسي أحيانًا: ما معنى أن أطحن صحتي في العمل لأجل ترقية تافهة، يعلم الله وحده كم ستصمد أمام الغلاء والتضخم؟ وانطلاقًا من تجاربي مع المال، تيقنت أنه لا يساوي شيئًا؛ فكلما ربحت مالًا خارج راتبي الشهري، نزلت بي مصيبة أو نازلة: مرض أحد أفراد العائلة، مصروف طارئ، سفر مفاجئ لا يحتمل التأجيل.
كأن المال لا يحب أن يبقى عندي طويلًا. صرت أكره المال، لا لأنه قليل، بل لأنه يكشف ضعفنا، ويضعنا عراة أمام هشاشتنا كبشر.
أما ليلى، زوجتي، فقد ظلّت كما عرفتها: ساكنة، حاضرة، قريبة كظلٍّ لا يفارقني، لكن المسافة بيننا اتسعت بصمت. لم نعد نتشاجر كما في سنواتنا الأولى، بل صرنا صامتين.
وما أدركتُ خطورة الأمر إلا حين فهمتُ أن الصمت في الزواج أخطر من الغضب. لم يعد هناك شيء نتشوق إليه. كل شيء صار يشبه ما سبقه. الأيام تتكرر، الوجوه، الأصوات، حتى أنا. أصبحتُ نسخة باهتة ممن كنت.
وكأنّي عالق في عالم كافكا، حيث الوحشة لا تتغير، بل تتعمق.ومع ذلك، كان هناك شيء صغير يُبقي هذا البيت حيًا. فحين تضع ليلى فنجان القهوة قربي دون أن تقول شيئًا، وحين تُشعل بخورًا في المساء، أو تفتح نافذة غرفة النوم ليعبر الضوء خلسةً… في تلك التفاصيل الصغيرة كان هناك الحب، الذي يختلف حتمًا عمّا تصوره الروايات.
وذات يوم، غرقت في التأمل ربما أكثر من اللازم، وفي لحظة من الإشراق قلت لنفسي: المودة والرحمة، لا الحب، هما ما يُبقي الحياة قائمة. واستعدت جملة قرأتها لسارتر: “الملل هو الوجه الآخر لوعي بلا معنى”، وابتسمت بمرارة، كمن فهم أخيرًا شيئًا مهمًا.
وفي المساء الموالي، سألت ليلى دون أن أنظر إليها:”هل تظنين أننا نعيش في الملل؟ هل ننعم بالسلام؟”فأجابت ببساطة، دون أن تلتفت:”ربما نعيش راحة لا نعرف كيف نفرح بها.”وكان ردّها أشبه بالصحوة.
هل يمكن أن يكون ما نراه مللًا، هو في جوهره سكينة لا نحسن استقبالها؟ ألأننا اعتدنا الصخب، لم نعد نميّز الهدوء؟ ولأول مرة، شعرت أن الملل ليس دائمًا خصمًا. أحيانًا يكون مرآةً نرى فيها أنفسنا مجرّدة من كل المساحيق، أو لعله صرخة من الداخل تدعونا لتغيير ما لا نجرؤ على المساس به.
واقْتربت مني ليلى في تلك الليلة، جلست إلى جواري، وضعت يدها على يدي وقالت:”لا أريد أن نتكلم اليوم عن أي شيء… فقط ابقَ هنا.”لم أكن بحاجة لتفسير.
عرفت حينها، كما يعرف العاشق طريقه في العتمة، أن الحب لا يُقال، بل يُحسّ. في تلك اللحظة، وسط كل هذا الخراب الذي يملأ شاشات العالم، وسط الخيانات السياسية، والمجتمعات التي تفقد عقلها وبوصلتها، شعرتُ أني إنسان… فقط لأني أنبض بالحب.
لم أشعر بحاجة إلى مشاهدة التلفاز، ولا إلى الهرب من نفسي. فقط أغمضت عيني، وتركت كل شيء في الخارج. ولأول مرة منذ شهور، نمت نومًا هادئًا، لا يعكر صفوه شيء.



