أخبارفي الصميم

استراتيجية الأمن الفكري

إنَّ الأمن؛ قضيةٌ كبرى وهاجسٌ باتَ يشغل المجتمع الانساني المعاصر، فالدول اليوم تتخذ لتأمينه إجراءات وترتيبات على جميع المستويات، وتُخصِّصُ من أجل ذلك مواردَ وطاقاتٍ ضخمةٍ وهائلةٍ.
فلا شك أنَّ مفهوم الأمن يحظى بأهميةٍ بالغةٍ، وقد شاع استخدامه حديثاً في علم السياسة، وإنّ ظهور مصطلح الأمن ظهر جليَّاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد برزت كثيرٌ من المدارس الفكرية التي تبحث في ماهية الأمن وتحقيقه، وكان التركيز والبحث يدوران حول كيفية صيانة الأمن وتجنُّبِ الحروب.
ولما كان الأمن الوطني في مفهومه الشامل يعني تأمين الدولة والحفاظ على مصادر قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وايجاد الاستراتيجيات والخطط الشاملة التي تكفل تحقيق ذلك،
فيبرز هنا البعد الفكري والمعنوي للأمن الوطني الذي يهدف الى حفظ الفكر السليم والمعتقدات والقيم والتقاليد الكريمة.

بقلم: المستشار الدكتور الحموي**

هذا البُعد من وجهة نظرنا يمثل بُعداً استراتيجياً للأمن الوطني لأنه مرتبط بهوية الأمّة واستقرارِ قِيمها التي تدعو الى أمن الأفراد؛ وأمن الوطن؛ والترابط والتواصل الاجتماعي، ومواجهة كلّ ما يهدد تلك الهوية وكل ما يبني الأفكار الهدامة التي تنعكسُ سلباً على جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فالهوية تمثل ثوابت الأمة من قِيم ومُعتقدات وعادات؛ وهذا ما يحرص الأعداء على مهاجمته لتحقيق أهدافهم العدوانية والترويج لأفكارهم الهدّامة وخاصة بين شريحة الشباب، والتشويش على أفكارهم ودعوتهم للانحراف الفكري – التطرف-.
بل إنَّ الأمن الفكري يتعدى ذلك ليكون من الضروريات الأمنية لحماية المكتسبات والوقوف بحزم ضدَّ كلِّ ما يؤدي الى الاخلال بالأمن والذي سينعكس حتماً على الجوانب الأمنية الاخرى خاصة الجنائية والاقتصادية.
واليوم يُعدُّ الانحراف الفكري – التطرف – من القضايا الأمنية البالغة الخطورة التي تهدد سلام واستقرار العالم العربي بصفة خاصة والإنسانية بشكل العام، ولم يقتصر هذا الانحراف الفكري والغلو على مستوى الأفراد ورُقَعَ محدودة، بل أصبح هذا الانحراف الفكري – التطرف – ظاهرةً شديدةَ الخطرِ، وأكثرَ تنظيماً وتهديداً للأمن الشامل للجميع.
ومن أبرز القضايا الأمنية المعاصرة في مجال الانحراف الفكري – التطرف – والغلو الفكري والذي دفع الى ظهور تنظيمات تقوم على القتل كوسيلة للبقاء، وعلى الغلو الفكري والطعن كمنهج للتفكير ولحشد البيئة الحاضنة لها ولأفكارها؛ – الاخوان المسلمين والوهابية -؛ والكثير المتنوع الأسماء ممن يظهرون بها أمام المجتمعات بما يتناسب مع المجتمع لسهولة الدخول واللعب بالأفكار والعقول وبرمجتها البرمجة التي تجعل من التابع عنصراً فعّالاً في تنفيذ هذا الانحراف الفكري وتحويله إلى طاقة فعّالة على الأرض لنشر الفوضى والخراب.

بل إنَّ الأمن الفكري مسألة معقدة وشائكة في مقابل الأبعاد الأمنية الاخرى التي تتمتع بالوضوح، فـالانحراف الفكري – التطرف – لا يكون واضحاً لكلِّ أحد؛ ولا في كلِّ وقت، إذ لا يملك ذلك إلا المؤهلون القادرون على ذلك
فالجهد الأمني اليوم ليس كافياً للحدِّ من ظواهر الانحراف الفكري، بل هناك حاجة لتضافر الجهود في مختلف المجالات عبر خطط وطنية شاملة تُراعي العوامل والأوضاع والظروف الفكرية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في أحداث ظواهر الانحراف، وإشاعة الأمن الفكري لتعزيز الوطن.
فالأمن الفكري هو إحساس المجتمع بأن منظومته الفكرية ونظامه الأخلاقي المسؤول عن ترتيب العلاقات بين أفراده داخل المجتمع؛ ليسا في موضع تهديد من فكرٍ متطرِّفٍ وافدٍ، وهذه المصادر التي تهدد الأمن الفكري متعددة وتأتي أحياناً كثيرة من جماعات التطرف والتشدد الفكري، ومثيري الفتن ودعاة الفِرقة.
فيكون العمل الذي تقوم به الأجهزة المسؤولة عن الأمن الفكري هو بالرقابة الأمنية أو وضع الضوابط والقيود على ما تقوم بعرضه وبثه تلك الجماعات من خلال البث الاعلامي المتنوع والانترنت وغيرهما من الوسائل، وهذه مهمة من الصعوبة بمكان نظراً لما يسمى بالعولمة وعصر تدفق المعلومات بكثافة.
لذلك أصبح اللجوء الى استراتيجية اجتماعية متكاملة امراً مُلحّاً للمساهمة في الحفاظ على عقول الشباب وغيرهم؛ من الغزو الفكري، وتحصينهم ثقافياً من خلال المعلومات الصحيحة التي تزيد الوعي الأمني والثقافي وذلك لإبعادهم عن الوقوع في الجريمة والخروج على الأنظمة والقيم والعادات والتعاليم الدينية السليمة التي تسعى إلى تخريبها وتحويلها؛ تلك الجماعات والأفراد لتحقيق مصالحهم السياسية الفوضوية التدميرية في البلاد.
من وجهة نظرنا، وربما يؤيدنا الكثيرون في ذلك، أنَّ الأمن الفكري ليس فقط مسؤولية السلطات المعنية بالأمن الوطني؛ إنّما ايضاً المؤسسات الاجتماعية بكلِّ أنواعها، سواءٌ التعليمية أو الثقافية أو الدينية التي سيكون لها من المؤكد الدور الفعال والحيوي في المساهمة في تحقيق أعلى مستويات الأمن الفكري.
وبشكلٍ أدق نشير هنا الى دور الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد، يُضاف الى ذلك وسائل الاعلام بكلِّ أنواعها والتي تنطلق من المجتمع – منه وإليه – و يتمثَّل هذا الدور بالدرجة الاولى في نشر وعي الأمني الفكري، وتنمية العلاقات بين رجال الأمن والمواطنين، ورفع معنويات رجال الأمن مما يُعمِّق الشعور بالانتماء لهذا الوطن، وتبصير الجميع بالنتائج الوخيمة للجريمة والتطرف وخطرها على المجتمع.

إنَّ العملية التعليمية والتوجيه الأسري بالإضافة الى دور المسجد – دور العبادة -، كل هذه العناصر تسير في خطٍ متوازٍ لدفع الأفراد الى اتجاهات فكرية سليمة ورشيدة وصحية، تُنتِجُ سُلوكاً سَويَّاً يؤدي الى إقامة علاقات إيجابية تُعينهم على مواجهة الأفكار الهدّامة والعيش بأمان وسلام في الوطن بين كافة أطيافه وأفراده.

الأمن الفكري وحماية الوطن

اليوم ومع تزايد الغزو الفكري والذي هو مصطلح عكس الأمن الفكري؛ وهو محاولة غزو أمم على أممٍ أخرى فكرياً للسيطرة عليها، وعلى سلوكيات أفرادها وطريقة تفكيرهم، وبالتالي تهديد الأمن القومي والاستقرار.
فتزايد الاهتمام بالأمن الفكري وضرورة السعي لحماية الفِكر من أيِّ انحرافٍ قد يتحول إلى سلوكٍ اجرامي يُهدِّدُ الأمنَ – الوطن والمواطن -، ويجب التأكيد على أهمية الأمن الفكري وضرورة ترسيخه في المجتمع وبينه وبين المواطنين أيضاً، حيث الأمن الفكري ركيزة أساسية من ركائز الأمن الشامل الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالعمل الجماعي على مختلف الأصعدة، وتضامن جميع قطاعات المجتمع؛ كلٌّ وُفق اهتماماته وقدراته وتخصّصه.
وكلما تكاملت الجهود وتضاعف التنسيق زادت فرص تحقيق الأمن، الأمر الذي يعني زيادة تماسك المجتمع ومتانة البناء واستحالة الاختراق والتخريب فيه.

ختاماً….
إنَّ للأمن الفكري دورٌ مهمٌّ في استقرار المجتمع وطمأنينته، وتحقيق هذا الأمن يعطي للقيادة الوطنية القدرة على التأثير وقيادة أفراد المجتمع إلى برّ الرقي والحضارة الدائمة.
إذن لا بدَّ من رسم استراتيجية واضحة وقوية لتنمية ودعم الأمن الفكري؛ لتتحقق طموحات الدولة في توفير الأمن، والمسارعة في وضع الاجراءات الوقائية، ومتابعة المتغيرات والصراعات الخارجية اقليمياً وعالمياً، مصحوبةً بالجاهزية والاستعداد لعلاج المشاكل والأزمات التي قد تهدد الأمن الوطني.
لذلك وجب علينا العمل على بلورة استراتيجية أمنية شاملة من خلال:

  1. نشر ثقافة المجتمع المدني.
  2. وضع خطة لإشكالية التطرف والغلو، وتحميل المسؤولية لجميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لمواجهة هذا الخطر.
  3. اعطاء الأهمية لدور الأسرة ومؤسسات التعليم المتنوعة – التعليم الأكاديمي والأخلاقي- والمؤسسات الاعلامية وذلك بتقديم الدعم الفني، وتوفير المعلومات لخطورة هذه الظاهرة، ضمن استراتيجية يتم توجيهها ومراقبتها مركزياً وفق أولويات الاستراتيجية الأمنية الشاملة.
  4. إجراء بحوث ودراسات على مفهوم واستراتيجيات الأمن الشامل بصفة عامة والأمن الفكري بصفة خاصة وفق احتياجات ومتطلبات الثقافة الوطنية المتنوعة.

**دكتوراه بالتنمية الاقتصادية – دكتوراه بالدراسات الإسلامية الاستراتيجية
مستشار أكاديمي وسلوكي في جامعة الحياة الخاصةالمستشار الدكتور
[email protected]

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button