أخبارالرئيسيةثقافة و فن

قصة قصيرة: العاشق الأسود

سيدتي الجميلة، أخيراً، تحقق حلمي ودخلتُ غرفتكِ! كم ترقَّبتُ واحترقتُ شوقاً في انتظار هذه اللحظة، حتى حسِبتُها لن تأتي! لكنها أتت، وهأنا أقفُ قربكِ مُخدَّر الحواس، أُمَلي العين برؤياكِ، من أخمص قدميكِ الحافيتين إلى أعلى رأسكِ المتوج بشعر كستنائي طويل.

وأنتِ تجربين فساتينكِ أمام المرآة لانتقاء ثوب مناسب للسهرة، ربَّما لم تنتبه عيناكِ كيف اشتعل الوميض في عينيَّ، وازداد توقداً إلى أن صارت مُقلتاي جمرتين متوهجتين، تحولت معهما نظراتي التي كانت تداعب جسدك الممشوق بكل وداعة، إلى نيران مستعرة تود التهامه! ولا أظن قلبكِ فطِن بقلبي الذي كان ينخلع من مكانه كلما خلعتِ فستاناً لاستبداله بآخر، وكاد يتوقف نبضُه حين استقر اختياركِ على فستان أسود طويل، والتفتتِ إليَّ بحدقتين فاحصتين قبل أن تنحني مادةً يدكِ نحوي، أنا الغارق في الوجد، جلدي الأسود البراق ملتهبٌ صبابةً وكعباي العاليان مرتعشان لوعةً!

بقلم/ نعيمة السي أعراب

تلقَّفتِني بين يديكِ كما يتلقف المنقذ من بين الموج غريقاً، وبِرفق أدخلتِ قدميكِ في جوفي، ثم انتصبتِ واقفةً، وخطوتِ بضع خطوات أمام المرآة لِتري الشكل النهائي. تماماً كما فعلتِ منذ أسبوع، يوم جئتِ إلى محل بيع الأحذية النسائية، واخترتِني من بين الكل، إذ سمعتُكِ تهمسين:

“أريدكَ أنت، وحدكَ ستَفي بالغرض!”.

خالجني شعور غريب عند ملامسة قدميكِ الطريتين الدافئتين وبشرتِهما الناعمة العطرة، بينما أصابعهما الرقيقة دغدغت ضلوعي جاعلةً الدم يتدافع من جديد في شراييني، ويسقي طبقات جلدي التي دبَّت فيها الحياة وانتعشت مسامُّها، فغمرتني قشعريرة لذيذة خِلتُ معها أن شعيرات دقيقة نمت ثانيةً على سطح جلدي.

من قال إن البشر وحدهم يبحثون عن أحذية تناسب أقدامهم؟! الأحذية بدورها تبحث عن أقدام تناسبها؛ وأنا وجدتُ ما يناسبني!

رغم المشاعر الجياشة التي اكتنفتني مساء اليوم، تماسكتُ نفسي لأحافظ على رباطة جأشي، وأقاوم رغبتي الملحة في ضمِّكِ بقوة كما فعلتُ أول أمس، عندما أخرجتِني من الدولاب قُربَ المدخل، حيث كنتُ قد قضيتُ خمسة أيام رفقة أحذيتك الأخرى، أسترقُ النظر من بين الشقوق متابعاً بشغف تحركاتكِ، وأنتِ تتجولين في أرجاء المنزل بخطوات رشيقة. من لهفتي واشتياقي، ما إن وجدتُني أحتوي قدميكِ الناعمتين، حتى جعلتُ جلدي ينكمش ويلتصق بهما، ضاغطاً بكل جهدي ومتلذذاً بشعور مثير لم أعهَدهُ، بلغ بي إلى حدِّ الرعشة القصوى. ولم أفِق من نشوتي إلا وأنتِ تصرخين من الألم محاوِلةً التخلص مني!

في الغرفة، لم أكرر فِعلتي تلك. لستُ أحمق لأنسى التجربة المريرة التي عشتُها بعدما وضعتِني في كيس بلاستيكي أسود، وحملتِني إلى الإسكافي الذي كاد يزهق روحي حين أقحم القالب الحديدي في جوفي، وشرع يزيد من حجمه ليُمَدد جلدي حتى أَوشكَ أن يمزق أوصالي!

هذه المرة، تصرفتُ بتعقل ولم أخذلكِ، بل حنوتُ على قدميكِ بِرفق، واحتضنتُهما بِلطف مقاوِماً مشاعري ورغباتي الجامحة. فكان جزائي أن أخذتِني معكِ إلى السهرة، هناك حيث اقتربت منكِ عدة أحذية رجالية لامعة، أصحابها يرمونكِ بنظرات الإعجاب أكثر من باقي النساء الحاضرات، لكن لا أحد منهم كان محظوظاً مثلي! أنا الوحيد الذي حظيتُ بمنظر ساقيك المرمريتين، بينما كنتُ أمارس لعبة جديدة تمنحني المتعة، وتقيني من غضبك في الوقت نفسه: أضغط على قدميكِ مراقباً الانقباض على ملامحكِ، فأُخفِّف من ضغطي حتى تنفرج أساريركِ؛ ثم أُعيد الكرة بالضغط ثانيةً، وأنا ألثُم أصابعكِ وباطن قدميكِ؛ أتراجع بعدها حالما ألمح الاحتقان على وجهكِ، وأُرخي قبضتي مرة أخرى… هكذا دواليك في احتكاك لذيذ مع قدميكِ بلغ بي النشوة تدريجيًّا!

أمضيتُ الوقت سعيداً منتشياً وسط المدعوين، إلى أن اصطدم بي حذاءٌ رجاليٌّ أحمر، دنا منكِ صاحبُه يحيِّيكِ ويتودَّد إليكِ، في حين لكزني هو قائلاً:

“مساء النور أيها الجميل!”.

لم أستلطِفهُ رغم أناقة شكله، إذ لم يرُقني جلده الطافِح بروائح السجائر والكحول التي لم يفلح دهن التلميع في طمسِها، كما لم يفلح في إخفاء التجاعيد الظاهرة على سطحه. وإذ رآني نافراً منه، أضاف بنبرة وقحة:

“ما بك صديقي؟ أُنظر كم تبدو صاحبتُكِ مسرورة رفقة صاحبي… هيَّا، اِسترخِ ودعنا نمرح قليلاً!”.

أغاظني تصريحه. وددتُ لو أُسدِّد له رفسةً لتأديبه لولا وعدي لكِ بحسن التصرف، فكتمتُ غيظي وحاولتُ تجاهله. إنما ما أشعل النيران في قلبي وأخرجني عن صوابي، هو لمَّا سمعتُكِ تضحكين من عليائكِ، وأنتِ تتبادلين الحديث الهامس مع صاحبه. حينها جنَّ جنوني، فأَطبقتُ على قدميكِ ضاغطاً عليهما بأقصى قوتي. وقُبلاتي الحانية لأصابعكِ وباطن قدميكِ تحولت إلى لدغات جعلت وجهكِ يمتقع، وأجبرَتكِ على المغادرة وأنتِ تتأفَّفين، تاركةً صاحب الحذاء الأحمر في حيرة من أمره.

الآن، بعد عودتنا من الحفل، تجلسين على طرف السرير مُمسِكةً بقدميكِ المتورِّمتين. تضعين مرهماً للتخفيف من آثار الكدمات عليهما. وبين الفينة والآخرى، ترفعين رأسكِ وترشُقينني بنظرات نارية، فأحترق وجِلاً، كعباي المرتجفان عاجزان عن حمل جسدي الذي ازداد سوادُه بريقاً مع العرق البارد المتصبب من مسام جلدي. أنحشر في الزاوية حيث قذفتِ بي غاضبةً منذ قليل، متسائلاً عن نوع القصاص الذي ستُنزلين بي بعدما أفسدتُ عليكِ سهرتكِ… اللعنة على ذلك الحذاء الأحمر، كل هذا بسببه!

أنا أقبل منكِ أقسى العقوبات، بل وأعتى أشكال الإذلال، سيدتي!

أنا الذي اقتنيتِني من أرقى المحلات وأعرق الماركات، صُنِعتُ من أجود أنواع الجلود وأفخَرِها، أقف بين يديكِ مستجدياً مستعطفاً!

ما رأيكِ سيدتي، يمكنكِ نزع كعبيَّ واستعمالي كخُفٍّ بئيس؟!

لكن من فضلكِ، لا تبعديني عنكِ، ولا تحرميني من ملامسة قدميكِ الحبيبتين!

وبينما أنا غارق في توسُّلاتي، هأَنتِ تنهضين، وبعصبية، تفتحين الدرج لتُخرجي كيساً بلاستيكيًّا أسود… يا الله، إذن هو الإسكافي وآلة التعذيب الرهيبة!

لكنكِ عكس كل توقعاتي، تفتحين النافذة بعد وضعي في الكيس، وتُلوِّحين بي في الفراغ من الطابق السادس، وأنتِ تصرخين:

“لم أعد أريدك!”.

ينتفخ الكيس بالهواء، ويطير عالياً باسطاً مِقبَضَيه مثل جناحَين يخفقان. ألتحمُ به ونصير جسداً واحداً. ولا يأتي الصباح حتى نكون قد تحولنا إلى طائر أسود، نحلق في سماء المدينة، وكلما لمحنا حذاءً رجاليًّا أحمر، ذرقنا على صاحبه!

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button