
بقلم: ذ.ابراهيم أبهوش- صحفي مغربي.
في لحظة فارقة من تاريخ المغرب الحديث، انتصرت الشرعية الدولية للموقف المغربي حين اعتمد مجلس الأمن الدولي مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد وواقعي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. لم يكن هذا القرار وليد لحظة دبلوماسية عابرة، بل ثمرة مسار طويل من التضحيات والوضوح السياسي والانخراط الوطني الجماعي في الدفاع عن وحدة التراب المغربي.
أكد الخطاب الملكي السامي بمناسبة هذا التحول التاريخي أن المغرب لا يميز بين أبنائه، وأن اللاجئين الصحراويين في مخيمات تندوف هم مغاربة لا فرق بينهم وبين إخوانهم داخل أرض الوطن. إنها رسالة إنسانية عميقة تعكس جوهر المشروع الوطني المغربي، وطن غفور رحيم لا يسعى إلى الانتصار على أحد بل إلى جمع الشمل وبناء المستقبل المشترك.
تلقى المغاربة من طنجة إلى الكويرة بصفة عامة، وساكنة الأقاليم الجنوبية بصفة خاصة، بارتياح كبير مضمون البشرى الملكية السامية، التي حملت في طياتها تأكيدًا جديدًا على أن الوطن يتسع لجميع أبنائه، وأن اللحظة التاريخية التي يعيشها المغرب هي لحظة وحدة ولمّ شمل، لا لحظة تصفية حسابات أو انتصارات ظرفية.
وفي قلب هذا المشروع تقف الأقاليم الجنوبية للمملكة شاهدة على طفرة تنموية غير مسبوقة تهدف إلى خدمة الساكنة المحلية والجهوية وتعزيز اندماجها في ركب التحولات الكبرى التي يعرفها المغرب. من البنية التحتية إلى الاستثمار، ومن التعليم إلى الصحة، تتحول الصحراء المغربية إلى قطب اقتصادي واستراتيجي يربط المغرب بعمقه الإفريقي ويجسد رؤية تنموية متكاملة.
ولم تكن هذه الدينامية لتتحقق لولا تشبث ساكنة الصحراء المغربية بثوابت الأمة وولائهم الدائم للعرش والوطن. لقد دفعوا ولا يزالون ضريبة التكامل والمشاركة مؤكدين أن الصحراء ليست هامشًا جغرافيًا بل قلبًا نابضًا للوطن من طنجة إلى الكويرة.
وفي خضم هذه التحولات يوجّه المغرب نداءً صادقًا إلى الجارة الجزائر مؤكدًا أن مكانها الطبيعي ليس في التنازع بل في البناء المشترك والتكامل المغاربي والتعاون من أجل مستقبل أفضل لشعوب المنطقة. فالمغرب العربي الكبير لا يُبنى بالحدود المغلقة ولا بالخطابات المتشنجة بل بإرادة سياسية صادقة تنشد السلام والأمن والاستقرار.
إن دعوة جلالة الملك للحوار الأخوي مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ليست مجرد مبادرة دبلوماسية بل تعبير عن قناعة راسخة بأن الجزائر بثقلها التاريخي والبشري قادرة على لعب دور محوري في بناء مغرب عربي قوي بمدخراته وباقتصاده وبشعوبه المتلاحمة التي تجمعها روابط التاريخ والدين والثقافة والمصير المشترك.
سيظل الشعب المغربي والجزائري والتونسي والليبي والموريتاني نسيجًا واحدًا لا تفرقه الحسابات الظرفية ولا تعصف به رياح الخلافات العابرة، لأن ما يجمع هذه الشعوب من وشائج الأخوة والتاريخ المشترك أقوى من كل ما يفرّقها، ولأن حلم المغرب العربي الكبير لا يزال حيًا في وجدان الأجيال، ينتظر من يحييه بإرادة صادقة ورؤية استراتيجية.
ترفع القبعة للدبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، التي أثبتت أنها مدرسة في الحنكة والاتزان والفعالية، واستطاعت أن تنقل ملف الصحراء من دائرة النزاع إلى فضاء الشرعية الدولية، وأن تُحوّل المبادرة المغربية إلى مرجعية أممية تحظى بدعم واسع من القوى الكبرى. لقد أعادت هذه الدبلوماسية رسم ملامح التوازن الإقليمي، وفرضت احترام المغرب كشريك موثوق، لا يساوم على سيادته ولا يغلق أبواب الحوار.
لقد آن الأوان أن نعيد الاعتبار لهذا الحلم وأن نُحيي الاتحاد المغاربي على أسس جديدة من الاحترام المتبادل والتعاون المثمر والتكامل الاقتصادي لأن مستقبل المنطقة لا يُبنى إلا بتجاوز الخلافات وتغليب منطق الحكمة على منطق التوتر
إن المغرب وهو يطوي صفحة النزاع المفتعل حول صحرائه لا يكتفي بتثبيت حقه التاريخي بل يفتح أبواب الأمل أمام كل من ضلّ الطريق ويؤكد أن الوطن يتسع للجميع وأن المصالحة ليست ضعفًا بل قوة أخلاقية وسياسية. فالوطن الذي احتضن المسيرة الخضراء وراكم خمسين سنة من البناء والتضحيات قادر اليوم على احتضان أبنائه جميعًا دون تمييز أو إقصاء
لقد آن الأوان أن ننتقل من منطق الدفاع إلى منطق البناء ومن خطاب الشرعية إلى خطاب التنمية ومن حدود الجغرافيا إلى آفاق الريادة. فالصحراء المغربية ليست فقط قضية وطنية بل بوابة استراتيجية نحو إفريقيا ومختبر حي لنموذج تنموي متجدد يضع الإنسان في قلب المعادلة ويجعل من الوحدة الوطنية رافعة للتقدم والكرامة
إنها لحظة تاريخية تستحق أن تُكتب بحروف من نور وأن تُترجم إلى مشاريع ملموسة وسياسات دامجة وخطاب وطني جامع. فالمغرب اليوم لا ينتظر الاعتراف بل يصنعه ولا يطلب الشرعية بل يكرّسها ولا يراهن على الماضي بل يبني المستقبل
وفي انتظار تلقي إخواننا بمخيمات تندوف والجارة الجزائر للقرار الأممي والإفادة الملكية من خلال اليد الممدودة للخير نأمل صادقين أن تكون هذه اللحظة بداية عهد جديد من التفاهم والتآخي، يليق بتاريخ المنطقة ويستجيب لتطلعات شعوبها في الوحدة والكرامة والازدهار.



