
بقلم: ذ. زهير أصدور _ محام بهيئة الرباط
يعدّ المفوض الملكي للدفاع عن الحق والقانون أحد الأعمدة الرمزية التي تمّ استحداثها في القضاء الإداري المغربي مع صدور القانون رقم 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية سنة 1993، في محاولة لإرساء دعامة فكرية وقانونية داخل المنظومة القضائية الإدارية، تضمن إضفاء بعد من التجرد والموضوعية على النقاش القضائي.
غير أنّ التجربة العملية الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود أظهرت أنّ المفوض الملكي ظلّ حبيس تصور ضيّق لوظيفته، إذ لم يتجاوز دوره إبداء رأي قانوني محايد ومستقل دون أن يترتّب عن مستنتجاته أي أثر قانوني ملزم، سواء بالنسبة للأطراف أو للمحكمة ذاتها.
لقد صُممت وظيفة المفوض الملكي لتكون عين الدولة الساهرة على احترام الحق وتطبيق القانون في المنازعات الإدارية، دون أن يكون طرفًا في الخصومة، بحيث يساهم في إغناء النقاش القانوني ويقترح على هيئة الحكم الحل الذي يراه مطابقًا للمشروعية.
غير أنّ هذا الدور فقد الكثير من مضمونه العملي بفعل غياب التفعيل التشريعي والتنظيمي اللازم، إذ أصبح المفوض الملكي في الممارسة مجرد إجراء مسطري، يتلو مستنتجاته في جلسة علنية غالبًا دون تفاعل، وتُحفظ تلك المستنتجات في ملف الدعوى دون أن يكون للمحكمة التزام بالردّ عليها أو التعليل بشأنها.
إنّ من مظاهر هذا القصور أنّ عددًا كبيرًا من الأحكام الإدارية تصدر مخالفة لمستنتجات دقيقة وقانونية للمفوضين الملكيين، دون أي إشارة إليها أو تعليل لمخالفتها، مما أفقد هذه المستنتجات قيمتها القانونية والرمزية.
ومع مرور الوقت، تحوّل أداء المفوض الملكي إلى واجب شكلي أكثر منه عنصرًا مؤثرًا في صناعة القرار القضائي. ولعلّ ذلك ما جعل العديد من المفوضين يكتفون بصياغة مستنتجات مقتضبة لا تضيف جديدًا، بعد أن تكرست لديهم قناعة بأنّ رأيهم لا يلقى وزنًا في مسار الدعوى.
إنّ هذا الوضع لا يمكن فصله عن الاختيارات التشريعية الأولى التي رافقت ميلاد القضاء الإداري بالمغرب. فقد رفضت وزارة العدل، عند إعداد القانون المحدث للمحاكم الإدارية، مقترحات كانت تروم منح المفوض الملكي صلاحيات أوسع، كحق الطعن لفائدة القانون أو المشاركة في تهيئة أوراق القضية، مستندة في ذلك إلى أنّ المقارنة مع النظم القانونية الأخرى لا تتيح له صفة الخصم أو المتدخل.
غير أنّ الأنظمة ذاتها التي استُشهد بها كمبرر للرفض عرفت تطورًا مؤسساتيًا لافتًا. ففي فرنسا، تطورت وظيفة المفوض الحكومي إلى المفوض العام داخل مجلس الدولة، وصار له دور حقيقي في إعداد الملفات وتوجيه الاجتهاد القضائي، كما أنّ النظام المصري خوّل المفوض حق الطعن في بعض الأحكام والمساهمة في حلّ النزاعات الإدارية بطريق التسوية.
إنّ الإشكال في التجربة المغربية لا يكمن في غياب المبدأ، وإنما في حدود التفعيل. فالمفوض الملكي لم يُمنح موقعًا داخل هرم السلطة القضائية يسمح له بالمشاركة في صياغة المشروعية الإدارية، بل تمّ تحجيمه في دور استشاري صامت.
ومادام لا يملك حق الطعن في الأحكام ولا سلطة اقتراحية أو تقريرية، فإنّه يبقى أقرب إلى متفرّج على مجريات الخصومة منه إلى شريك في تكريس العدالة الإدارية.
وحتى في القضايا التي تكون فيها مستنتجاته وجيهة من الناحية القانونية، فإنّ تجاهلها من طرف الهيئة الحاكمة لا يترتب عنه أي بطلان أو مساءلة، الأمر الذي يفرغ هذه المؤسسة من محتواها الوظيفي.ومن الأمثلة التي تعكس هذا الواقع ما أثاره قرار المحكمة الدستورية رقم 25/303 بخصوص المادتين 107 و364 من قانون المسطرة المدنية، حين اعتبرت أن منع الأطراف من التعقيب على مستنتجات المفوض الملكي يشكّل مساسًا بحقوق الدفاع.
غير أنّ هذا النقاش الإجرائي يظلّ ثانويًا مقارنة بجوهر الإشكال، لأنّ مجرد تمكين الأطراف من التعقيب لا يعيد للمفوض الملكي وزنه الحقيقي، ما دام رأيه غير مؤثر في الحكم، وما دامت المحكمة غير ملزمة بالتفاعل معه.
فالعيب ليس في الإجراء، بل في البنية العامة التي وضعت المفوض الملكي في مرتبة شكلية لا تتناسب مع فلسفة القضاء الإداري.
إنّ إصلاح هذا الوضع يقتضي إعادة النظر في المنظومة برمتها، من خلال تطوير القانون المحدث للمحاكم الإدارية بما يمنح المفوض الملكي دورًا مؤسساتيًا فعالًا، يمكنه من الطعن لفائدة القانون، ومن المشاركة في تهيئة الملفات، على غرار ما هو معمول به في الأنظمة المقارنة.
كما يقتضي الإصلاح استكمال البناء القضائي بإحداث مجلس الدولة، باعتباره الإطار الطبيعي لتكريس ازدواجية القضاء وضمان وحدة الاجتهاد الإداري، وتثبيت المفوض الملكي كفاعل داخل هذه المؤسسة، لا كصدى صوت عابر في الجلسة.لقد أضاعت التجربة المغربية فرصًا متتالية لتطوير هذه المؤسسة، فبقي المفوض الملكي حارسًا للحق والقانون في النصوص، لكنه مجرد شاهد صامت في الممارسة.
ولن يستعيد مكانته إلا عندما يتحوّل من كيان رمزي إلى سلطة فكرية وقانونية فاعلة، لها الكلمة في مسار العدالة الإدارية، باعتباره طرفًا رئيسيًا في حماية المشروعية وليس مجرد تكملة نصاب مسطري.



