أخبارالرئيسيةرياضة

كيف يعمل القائد بوعي داخل الزمن الدائري؟

بقلم: د. مهدي عامري-خبير وأستاذ الذكاء الاصطناعي والتواصل

منذ فجر التاريخ، لم يكن الزمن واحدًا عند البشر. كان هناك زمن يُعاش من الداخل، وزمن يُقاس من الخارج. الزمن الذي يُعاش هو لحظة الامتلاء، حيث تتوسع الدقيقة لتصير بحجم الكون.

والزمن الذي يُقاس هو سلسلة من الوحدات المتتابعة : أيام وأسابيع وشهور، كما لو أن الحياة خط مستقيم لا يسمح للروح بالوقوف أو التأمل أو المراجعة.

و لقد صاغت الحضارة الغربية النموذج الأكثر صرامة لهذا الزمن الخطي، حيث اليوم مقسم إلى ساعات محددة، والإنجاز مرتبط بسرعة التنفيذ، والفرد يُقاس بما أنتجه، لا بما وعاه أو عمّقه.هل لاحظت أن زمن العمل في الشركات والمؤسسات زمن هندسي مغلق، لا مكان فيه للصمت الداخلي، ولا لحركة النفس في أعماقها؟ في هذا الزمن، يكون الإنسان حاضرًا بجسده، غائبًا عن ذاته.

ما معنى هذا الكلام ؟

دعني أشرح لك البديل، خاصة بالنسبة لذوي الأدوار الفكرية والاستراتيجية في المؤسسات: القائد أو المدير الذي يحتاج أن يرى أبعد من الآخرين، الأستاذ الذي يفتح لتلاميذه أفقًا رحبا، الباحث الذي يبني المعنى و المخطّط الذي يحدد الاتجاه.

جميع هؤلاء بلا شك لا يستوي عملهم مع ضغط الزمن الخطي وحده، لأن عملهم ليس “تنفيذًا”، بل هو شيء آخر تماما : “التأويل” و”بناء الرؤية”.

هنا يبرز الزمن الدائري: الزمن الذي لا يُقاس بالثواني، بل بعمق الحضور، حيث اللحظة ليست نقطة في خط، بل مركز تتولد منه دوائر من الفهم.يخيل إليك أني أمزح… كلا. هذا هو عين العقل.

فالقائد حين ينسى مركزه، يتيه في الاتجاهات. وحين يجد مركزه، يصبح الاتجاه كله واضحًا أمام عينيه. و كما قال أحد الفلاسفة : «الزمان أنت»، ليس لأن الإنسان يخلق الوقت، بل لأن الوقت لا يأخذ معناه إلا بقدر ما نكون حاضرين فيه.

فاللحظة التي تكون فيها واعيًا بذاتك، ممتلئًا بحضورك، أعمق من يوم كامل تقضيه في الركض بين المهام.

بناء على ما سبق، هل لاحظت كيف أن بيئات العمل الحديثة تصِف نفسها بـ”الاحترافية” و”الفعالية”، لكنها في العمق تدفع الإنسان إلى العيش خارج نفسه؟ كل شيء فيها محسوب ومراقب: الوقت، النتائج، الوتيرة.

إن هذا هو البؤس بعينه. إنه قد يصلح للآلات، لكنه لا يصلح للكائن الحي المفكر. إن الدماغ البشري لا يبدع تحت الضغط، بل يتفتح حين يكون في حالة من الاتساع و الطمأنينة.

فالباحث و القائد و المفكر، كل واحد من هؤلاء لا يحتاج إلى أربعين ساعة من العمل في الأسبوع. هو يحتاج ساعة واحدة فقط كل يوم شريطة أن تكون مشبعة بالوعي والتركيز والوجود الحقيقي.

إن هذه حقيقة نفسية قبل أن تكون فلسفية، فالفيلسوف اليوناني أرسطو ميز بين النشاط الذي نفعله من أجل غاية خارجية، والنشاط الذي يحمل غايته في ذاته.

فالعمل الذي يحمل معناه في داخله، يمكن أن يغيّر العالم ببطء هادئ لا يحتاج ضجيجًا. و حين نكون حاضرين من الداخل، فإن أقل مجهود ينتج أعظم أثر.

أما حين نكون غائبين عن أنفسنا، فإن أعظم مجهود لا ينتج إلا التعب.

في هذا السياق، فرق عالم الأنثروبولوجيا إدوارد هال بين زمنين متباينين : زمن أحادي خطي (Monochronic) يقسم الحياة إلى وحدات ويعطي الأولوية للسرعة والإنجاز، وزمن دائري متعدد الحلقات (Polychronic) حيث العلاقات و العمق والإنصات للوجود أهم من العَدّ والتنفيذ.

انها بامتياز مجتمعات المتوسط والشرق ذات الروح العميقة للإنسان و التي كانت دومًا تميل للزمن الدائري الذي تسكن فيه اللحظة، لا الذي يُلاحَق و يطارد فيه المستقبل.

ان كل لحظة وعي هي بذرة حياة. وكل حياة بلا وعي هي سباق كارثي النهاية. هذه هي الخلاصة. هذا هو ما يجب أن نفهمه. حان الوقت إذا لإعادة الروح إلى الوقت.

ليس بالهروب من العالم، ولا برفض التنظيم، ولكن بإعادة التوازن بين خارج الإنسان وداخله. فأن يعمل القائد 6 إلى 7 ساعات فقط في الأسبوع لا يعني أنه كسول، بل يعني أنه فهم معنى العمل. لأن هذا الأخير ليس ما نؤديه، بل ما نصير إليه أثناء الأداء.

هذه هي المعادلة الناجحة: تنظيم خارجي بسيط + حضور داخلي عميق = إنتاج بلا إرهاق، وفعل بلا توتر، ومعرفة بلا صدام.

و انطلاقا من هذا فإننا حين نعود إلى مركزنا و داخلنا، لا نخشى التأخر، لأننا لم نعد نقيم أنفسنا بمقاسات الخارج. وحين نعمل من الداخل، نصير قادرين على اتخاذ القرار من موقع الرؤية لا من موقع رد الفعل.

دعونا الآن نلخص :.أيها القائد، إن الزمن الدائري لا يطلب منك أن تعمل أقل، بل يطلب منك أن تعمل وأنت موجود فعلًا، لا وأنت مسحوب إلى الخارج.

أن تعيش اللحظة لا لأنها جميلة، بل لأنها الحقيقة الوحيدة التي يمكن البناء عليها،. في بداية اليوم، يكفي أن تكتب سطرًا واحدًا: «أنا هنا». وفي نهايته، يكفي أن تهمس لنفسك: «لقد كنت حيًا اليوم».و بين السطرين يُولد الفكر و يشتعل، وتتشكل التجربة، ويكبر الإنسان.

ليس المهم كم نعمل، بل كيف نحيا ونحن نعمل. ليس المهم عدد الساعات، بل عمق اللحظة.

وكل من لمس هذا العمق، يعرف أن الزمن الحقيقي لا يُقاس… إنه يُعاش..

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button