أخبارالرئيسيةفي الصميم

حديث الأربعين

يقول الراوي:”لما بلغت الأربعين، نظرتُ في مرآة نفسي، فهالني ما رأيت، لقد خطّ الشيبُ رأسي، فلا بأس، فدوام الحال من المحال، وشيب العقد الرابع وقارٌ وجلالٌ..

✍️ د. مهدي عامري

بلغت الأربعين، وتيقنت يا حبيبي أني لم أعشقك كما يليق بمن خُلِق بمحبتك، ونفخت فيه من روحك، واكتشفت ذات مساء حزين، وأنا أرنو إلى قبة السماء المرصعة بالنجوم، أني عندما كنت في العشرين، وربما في مستهل الثلاثين، لم أنصهر في جلالك بما يكفي، ولم أذب في عظمتك كما تذوب القَطرة في لجّة البحر، فخشيت أن أكون من الغافلين، واستغثت برحمتك الواسعة، وعاهدت نفسي أن أسبّحك كل يوم بأسمائك الحسنى، ما علمتُ منها وما لم أعلم، لعلي أصير يوماً ما من عبادك العارفين.. من يدري؟!.

وأذكر أني في مقتبل الشباب كنت بعيداً عن أصالة الروح واحتراقها في محراب الحب الصافي.. وكنتُ، على ما بدا لي وأنا أُخط بيميني هذه الاعترافات، أرتدي عباءة القرب، بينما لم أصل بعد إلى قاب قوسين، فهل لأن نفسي – وهي أمّارة بالسوء – كانت هي الحاجز بيني وبين من أحب؟.

وأذكر أيضاً أني قرأت يوماً في إحدى مصنفات أهل الله أن العشق لا يُورث بالكلام، وإنما يُلقى في القلب كالنور إذا شاء المُفيض.

فرفعتُ يدي، لا كمن يسأل، بل كمن يستسلم، وقلت: ربِّ، إن كنتَ علمتَ في قلبي صدق الشوق، وإن كنتَ قد رأيتَ أني اكتويتُ بنار الغياب، فامدد لي في عمري، لا لأستزيد من الدنيا، بل لأتطهّر من نفسي الغارقة في الأوهام..

ومرّت الأيام، وأُلقي في خاطري، في لحظة من الإلهام وأنا أتلو ما تيسّر من القرآن، أن الحياة لا تساوي عندك جناح بعوضة، وأن ما عندك هو الخير، وهو الأبقى، وهو الأكمل، وهو الأحق بأن يُطلب، وأني إذ أطلبك، فإني في الحقيقة أعود إلى أصلي، فأنت أصل الأشياء، ومصدر الأرواح، ومغيث الضائعين ومرشدهم إلى الطريق المستقيم.

وها أنا أُقرّ لك يا إلهي – فسامحني، أرجوك.. – أني في إحدى فترات حياتي كنتُ أخشى أرباباً غيرك: المال، النفوذ، الجاه، الصورة، التقدير، العظمة، والناس… وكلهم أقاموا في قلبي برهةً من الزمن، وجلستُ عندهم كما يجلس المريد بين يدي الشيخ، فإذا كلهم فانون، وإذا محبتهم تفتر، وإذا قربهم بُعد، وإذا عطاؤهم قيد، فعلمتُ أن لا رب إلا أنت، ولا محبوب إلا من أحبّك، ولا نور إلا ما جاء من لدنك.

وحدث لي ما يشبه ولوج تجربة الوعي واستنارة الروح بعد تخبطها في الظلمات، ورأيت – فيما يرى القلب إذا نام الجسد – أن أحدهم قصدني بسوء، وكان في يده خنجر، أراد أن يطعنني به قبيل الفجر، وكان وجهه غامضًا، كأنه من عوالم غير منظورة، لكنه حين اقترب، انكسر سلاحه قبل أن يلمسني، وانكشفت نيّته قبل أن ينطق، وتراجع دون أن يلتفت، فعلمتُ أنك أنت الذي تحرسني في النوم كما في اليقظة، وأنك حي قيوم لا تموت ولا تنام، وأن قلب عبدك إذا سلّم لك، فإنك لا تتركه فريسةً للأعداء، فخشعتُ لك خشوع من رآك دون أن يراك، وأحبك حدّ الفناء لأنك تعطي دون حساب..

ثم عدتُ إلى دنياي، أُحصي ما بقي لي من الأيام، وأرجو أن يكون ما بقي سكونًا بعد صخب، وسكينةً بعد هياج، ورحمةً بعد جفاء، فأنا – يا مولاي – ما عُدت أريد أن أركض، ولا أن أُنافس، ولا أن أُظهر ما لا يسكنني، فكل ما أريده أن أستقر في حضرتك، كما قلبي حين نطق باسمك لأول مرة.

وها أنذا أكتشف أمراً غريباً عجيباً، لكنه يغمر قلبي بالطمأنينة: لقد علّمتني يا الله أن الأيام تمضي، لكن الأرواح تبقى عند من تعلّقت به، وأن الأربعين ليست من العمر عددًا، بل هي منزلة من المنازل، ودرجة في السلوك، فإما أن تكون منزلقًا إلى غفلة نهائية، وإما أن تكون ولادة جديدة وطريقاً حقيقياً إلى النور..

ولقد اخترتُ – يا ربي – أن أُولد فيك من جديد، وأن أنسى أرقامي وتواريخي ومناصبي وأخطائي، وأن أتذكرك فقط، كما يتذكّر الضالّ بيته بعد التيه، وكما يتذكّر الطفل حضن أمه حين يبكي، وكما يتذكّر العطشان الماء إذا رأى السراب.

فلا تجعلني ممن طالت بهم الأيام فزادوا بُعداً، بل اجعلني ممن امتد بهم العمر فزادوا قرباً، وتكسّرت فيهم الحُجب، وسكنوا مقام الرضى، وارتشفوا كأس الأُنس، وجلسوا في حضرة العشق لأنهم لم يجدوا غيرها ملاذًا، ولا دونها حبيبًا، ولا سواها سكنًا.

ومرة أخرى أقولها لك، من خالص قلبي: إني ما طلبتُ سواك إلا حين جُرّدتُ من كل شيء، وإني ما عرفتك إلا حين عرّفتني بنفسي وإنسانيتي، وما خشعتُ لك إلا حين نزعتَ من قلبي هيبة غيرك، وما دعوتك أن تمدّ لي في عمري إلا لأُكثر من الذكر، ولأقلّل من الشكوى، ولأطهّر هذا القلب من الشوائب التي علقت به في طريق السنين، فاجعلني يا مولاي ممن إذا ذُكروا، ذُكرت، وإذا أحبّوا، أحبّوا فيك، وإذا عاشوا، عاشوا لك، وإذا ماتوا، ماتوا عليك، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا رضا الناس مطلبي، ولا رُتَب العباد غايتي، واجعلني عبدًا بسيطًا يُجالس نفسه في الذكر، ويُحدّث قلبه في السر والفكر، ويُسافر بروحه في سماء أسمائك الحسنى، فإنك أقرب إلينا من حبل الوريد، وألطف من النسيم، وأغنى من العطاء كله، وإن من ذاق قربك عرف، ومن عرف ما عاد يرجو إلا وجهك، فخذني إليك، واغسلني من جهلي، وامنحني من حبك ما يُغنيني عن سواك، فأنا فقير لا يُغنيه إلا شهودك، وضائع لا يهتدي إلا بنورك، وساجد لا يقوم إلا بعفوك، فكن لي كما كنتَ لأحبّائك، بجودك ورحمتك التي وسعت السماوات والأرض..

إلهي، أنا أكتب هذه الكلمات، وعيناي مغرورقتان بالدموع، فهل هذه لحظات التحوّل؟ هل هو فتح من فتوحات المحبين؟؟إلهي وخالقي وحبيبي.. أنت الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، وأنت مولاي، وما لي ربٌّ سواك.”

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button