أخبارالرئيسيةثقافة و فن

أنا أَعْشَقُ البَحْر

بقلم/ د. مهدي عامري

“قصة من وحي الخيال لكنها اصدق من الواقع”

حلوة كقطعة السكر. دافئة كليلة صيف. بريئة كالملاك…

ليلى.

الليل، يا ليلى، يعاتبني ويقول لي: سلم على ليلى.

كانت ليلى، بشعرها المنسدل كخيوط الحرير وعينيها الحالمتين، تجلس على صخرة ملساء على الشاطئ. كانت الأمواج تلامس أطراف قدميها العاريتين كأنها تهمس لها بأسرار الكون. وأمامها، كان أستاذها عزيز، رجل في الرابعة والأربعين، ذو نظرة حادة وصوت هادئ، يحمل بين يديه كتابًا يناقش فلسفة الجمال.

و كان الراديو يصدح باحدى اجمل اغاني نجاة الصغيرة :

انا بعشق البحر
زيك يا حبيبي حنون
وساعات زيك مجنون
ومهاجر ومسافر
وساعات زيك حيران
وساعات زيك زعلان
وساعات مليان بالصبر
انا بعشق البحر

و مرت لحظة صمت طويلة بين ليلى و عزيز، و لم يكن فيها سوى هدير الأمواج حاضرًا. ثم قالت ليلى، بصوتها العذب الذي يشبه موسيقى الليل:
“لماذا، أستاذي، يبدو الجمال أحيانًا وكأنه لعنة؟”

رفع عزيز عينيه نحوها ببطء، وتأمل وجهها المليح الذي بدا كلوحة انطباعية خُطّت بيد فنان مبدع. أجابها بصوت يحمل نبرة تأمل:
“لأنه يا ليلى، الجمال لا يكفي وحده ليمنحنا السعادة. إنه مرآة تعكس عذابات الروح. وكلما كان الإنسان أكثر حساسية تجاهه، كان أكثر عرضة للألم.”

شعرت ليلى بوخز الكلمات، وكأنها جاءت لتفتح جروحًا قديمة. حاولت أن تخفي ارتباكها بينما أزاحت خصلة من شعرها الكستنائي عن وجهها، وقالت بشيء من الحدة:
“ولكن أليس الجمال هو ما يمنح الحياة معناها؟ أليس هو ما يجعلنا نعيش ونتحمل كل هذا الألم؟”

رسم عزيز على محياه ابتسامة خفيفة، ووضع الكتاب جانبًا. نظر إلى البحر الممتد أمامه كأنه يبحث عن إجابة بين الأمواج. ثم قال:
“ربما يا ليلى. لكن الجمال وحده لا يكفي. إنه مثل البحر الذي ترينه أمامك. قد يبدو جميلًا في ظاهره، لكنه يخفي في أعماقه عوالم مجهولة، وربما خطيرة.”

ارتجف قلب ليلى من كلماته. شعرت أن عزيز يتحدث عن شيء أعمق من الفلسفة، شيء يخصها هي. حاولت أن تهرب من هذا الشعور، فسألته بابتسامة مصطنعة:
“وأنت، أستاذي، هل تخاف أعماق البحر؟”

توقف للحظة، وكأنه يبحث عن الكلمات المناسبة. ثم قال:
“أنا لا أخاف البحر يا ليلى، بل أخاف من نفسي إذا ما غاصت فيه. أحيانًا نخشى اكتشاف ما بداخلنا أكثر من خوفنا من أي شيء خارجي.”

كانت كلمات عزيز تمزق شيئًا في قلب ليلى. شعرت وكأنها تقف على حافة الهاوية، بين رغبتها في الفهم وخوفها من مواجهة الحقيقة. قالت بصوت مرتجف:
“ولكن، أليس الحب أيضًا نوعًا من الغوص في الأعماق؟”

نظر إليها عزيز نظرة طويلة، ثم قال بصوت هادئ لكنه محمّل بالشجن:
“الحب يا ليلى هو البحر ذاته. قد يمنحك أجمل ما في الحياة، وقد يغرقك. المشكلة ليست في الحب نفسه، بل فيمن يحب.”

كانت ليلى تشعر أن الحوار قد تحول إلى اعتراف ضمني. شعرت بحرارة وجهها واحمرار خديها. حاولت أن تنظر بعيدًا، لكنها لم تستطع أن تهرب من نظرات عزيز.

“وأنتِ يا ليلى، هل غصتِ في بحر الحب؟”

كان السؤال مفاجئًا، وكأنها لم تتوقع أن يكون الحوار صريحًا إلى هذا الحد. حاولت أن تبتسم، لكنها لم تستطع أن تخفي ارتجاف صوتها وهي تقول:
“ربما… وربما كنت أخاف الغرق.”

صمت عزيز للحظة، ثم قال بنبرة حازمة:
“الخوف يا ليلى هو ما يمنعنا من العيش. لكن لا بد أن يكون الخوف موجودًا، فهو الذي يجعلنا نفكر قبل أن نخطو أي خطوة.”

كان الغروب قد بدأ يغلف الأفق بلونه الذهبي الساحر، وكان انعكاسه على وجه ليلى يجعلها تبدو ككائن قادم من عالم آخر. شعرت أن اللحظة كانت أكثر من مجرد حوار. كان هناك شيء أعمق يحدث بينهما، شيء لا تستطيع أن تسميه، لكنه يملأ الهواء من حولهما.

قالت ليلى بهدوء:
“أستاذي، هل يمكن للإنسان أن يحب دون أن يتألم؟”

أجابها عزيز دون تردد:
“لا يا ليلى. الحب والألم وجهان لعملة واحدة. لا يمكن أن تحبي دون أن تُجرحي. لكن الجرح ليس دائمًا سيئًا. أحيانًا تكون الجراح هي ما تجعلنا ندرك قيمة ما لدينا.”

شعرت ليلى أن قلبها يثقل أكثر مع كل كلمة. أرادت أن تسأله سؤالًا أخيرًا، سؤالًا كانت تخشى الإجابة عليه، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من النطق به:
“وأنت، أستاذي… هل أحببت يومًا؟”

كان السؤال كالسهم الذي اخترق صدر عزيز. نظر إليها للحظة، ثم أدار وجهه نحو البحر. كانت الأمواج تتلاطم بشدة وكأنها تعكس اضطرابه الداخلي. قال بصوت منخفض بالكاد استطاعت أن تسمعه:
“نعم. لكنني دفعت الثمن.”

كانت الإجابة تحمل من الحزن ما يكفي ليملأ البحر أمامهما. شعرت ليلى برغبة غريبة في أن تواسيه، لكنها لم تعرف كيف. كان عزيز بالنسبة لها أكثر من مجرد أستاذ. كان صورة للحكمة، للحزن، وللشخص الذي تمنت دائمًا أن تفهمه، لكنها شعرت أنه بعيد عنها كالنجوم.

ثم قال عزيز، وكأنه يحدث نفسه:
“الحب يا ليلى، هو أقرب ما يكون إلى الغروب. جميل ومبهر، لكنه ينتهي دائمًا بالظلام.”

كانت كلمات عزيز كخاتمة لقصيدة حزينة. شعرت ليلى أن دموعها تكاد تنهمر، لكنها تمالكت نفسها. قالت له بصوت هادئ لكنه محمّل بالعاطفة:
“لكن الظلام يا أستاذي، ليس نهاية. ربما يكون بداية لنور جديد.”

ابتسم عزيز أخيرًا، ابتسامة حملت معها كل ما لم يقله. ثم وقف، ومد يده لها كي يساعدها على النهوض. أمسك بيدها للحظة، ثم قال:
“لنأمل ذلك، يا ليلى. لنأمل ذلك.”

ومع آخر خيوط الغروب، غادرا الشاطئ معًا، لكنهما تركا وراءهما على الرمال قصة غير مكتملة، تحمل بين سطورها كل الألم والجمال الذي يخبئه البحر.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button