يا مكة !

في زمنٍ طغى فيه الصخب على السكون، وتكاثرت فيه الرحلات الجسدية الخالية من المعنى، تظهر هذه القصة كأنها نَفَسٌ نقيّ من العالم الآخر. ليست هذه مجرد حكاية عن الحج، بل هي تجلٍّ وجداني لرحلة الإنسان نحو أصل النور، وحنينه إلى وطنٍ لا يُقاس بخريطة، بل بمدى التحام الروح بالسرّ الإلهي.
في “نداء مكة”، يصوغ الكاتب بلغةٍ تفيض خشوعًا وتأملًا، حكاية قلبٍ لم ينتظر جواز السفر ليصل، بل سبق جسده في السعي والطواف والمعراج.

إنه نصٌّ يُقرأ بالبصيرة قبل البصر، ويُكتب في قلب كل من ذاق، فعرف، فذاب، فوصل..//
يقول الراوي:
” منذ كنتُ طفلًا يافعًا، بل حتى قبل أن أُتمّ الثانية عشرة ربيعًا، كان في قلبي شوقٌ إلى مقامٍ لا أعرفه، ولكنّه يسكنني. كنت أبحث عن لمسةٍ لأقدس أحجار الأرض، وكنت أهفو بروحي إلى سرِّ الأسرار: الحجر الأسود الذي إذا مسّتْه الروح صارت طاهرة، وإذا قبّلته القلوب انمحى عنها صدأ الغفلة، وصار الموتُ ولادةً جديدة. وكنت أقول لنفسي على مدار سنوات: من ذاق عرف، ومن عرف ذاب، ومن ذاب فقد وصل فمتى اصل ؟
كانت البداية بيثرب..
يا جمال النبي! ما إن لاحت لي المدينة، حتى تجلّى نورُ المصطفى في الأفق، فاختلطت دموع الفرح بأحزاني القديمة، وامتزج البصر بالبصيرة، وانكشفت الحجب بين الظاهر والباطن. دخلتُكِ يا طيبة، كمن يلج إلى حضرة النور، لا كمَن يزور مسجدًا وجزءًا من تاريخ الإسلام وكفى… كان كل حجرٍ في المدينة يسبّح، وكل نخلةٍ كانت تنادي باسمه الأعظم، وكل نسمة هواء كانت تهتف: «مرحبًا بك يا ضيف الرحمن، أيها السالك، سَلْ تُعْطَ!»
ثم قصدتُ مكة. لم أكن مسافرًا بالاقدام و انما بالقلب.. ولما وصلتُ إلى البيت العتيق، رأيت نور الله. كان مقامًا شريفًا، طاهرًا، لا يطؤه المؤمن إلا وتخلّى عن علائق الدنيا، ولا تدخله النفس إلا وتخرج منه وقد اغتسلت كما الأرواح في أعلى علّيّين.
وهناك استيقنتُ أن القلب يدور حول البيت، كما يدور حول رب العالمين.
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك… لم أكن أردّدها باللسان، بل بكياني كلّه. كان طوافي حول الحقيقة، والنور الأول، وحول النقطة التي بدأ منها كل شيء، وسينتهي إليها كل الكل..
وقبل أن اواصل مناسك الحج، رأيتُ في ما يرى النائم، شهرًا كاملًا قبل الشروع في رحلة العمر، أني أطوف وأطوف بلا توقف… و لم تكن مرةً ولا مرتين، بل كان الحلم الغريب العجيب يتكرّر في خاطري وأعماق روحي اياما و ليالي متتالية. وكنت أقوم من نومي وقت السحر، والناس نيام، وقلبي ينبض بنورٍ لم أذق مثيلًا لحلاوته من قبل. كأن اليمّ في داخلي يصطخب.. كأن هناك بحرًا من الحنان الإلهي الفيّاض، الذي لا يُبقي في القلب موضعًا لشيء سوى وجه الله. وكنت أشعر، في صمت تلك الليالي، أني قد حججت قبل أن أحج، وأن روحي سبقت جسدي إلى البيت العتيق، وأن وعدًا قديمًا يوشك أن يتم.
ولم يكن ذلك بعيدًا، فأنا أذكر، وأنا طفلٌ لم أبلغ الثامنة… أذكر كيف كنت أتسابق مع أقراني إلى الوضوء من نوافير جامع القرويين… وأستحضر أيضًا كيف كنت أتنافس مع أترابي على الصلاة، والصيام التطوعي، وترتيل القرآن. وكنت أشعر – دون أن أعي – أن في داخلي نورًا يسري، وأني لم أُخلق للسكن، بل للحج في أرض الله، و اني لم أُخلق للمقام، بل للسياحة في دنيا الله.
وكان جدي الحسن رجلًا زاهدًا، عارفًا، قد خبّأ كل الأسرار في ضحكاته وقفشاته المستمرة معي. وكان في كل مرة يزورنا في البيت يصيح في وجهي مداعبًا: «مباركٌ عليك، يا حاج، لقد وُلدتَ يوم وقَفنا أنا وجدّتك على جبل عرفة. كانت أمك في المخاض، وكانت دعواتُنا تسيل كالطوفان، وكنا نرفعها بخشوع ودموع مدرّارة إلى إلهنا وخالقنا العظيم: ربّ ارزقها الذريّة الصالحة، وكبّر ولدها في رضاك وطاعتك».
وكنت أشعر، كلما سمعتُ تلك القصة، أني منذ لحظة الدعاء الخارقة لجدي – رحمه الله – قد وضعتُ خطواتي الأولى في طريق الحج…
وجاء اليوم الموعود. وصعدتُ إلى جبل عرفة، وشعرت أني أعود إلى المكان الذي خُلقت فيه روحي أول مرة. يا سبحان الله! إنه المكان الذي أقررتُ فيه بالعهد، وسمعت فيه النداء الأول: “ألستُ بربكم؟” فقلت: “بلى… ربنا وخالقنا ومالك كل شيء…”
وهناك، كانت دموعي تتدفق كالشلال، بينما روحي في معراجها الخالد إلى مقام العشق والقرب.
وانتهت الرحلة بعد أيام، ولكنها كانت البداية.. وعدتُ من حيث أتيت، إلى ما يُسمى “الوطن”، وأدركتُ بإحساس قلبي عميق أن الوطن ليس حيث تسكن أيها الإنسان، بل حيث تلتحم روحك مع روح الله.. وهمست لنفسي، وأنا موزّع بين حزن الفراق ولوعة الحنين: ربما هذا منبتي ومسقط رأسي، لكن وطني هو مكة، هو البلد الأمين… فثمّة يُولد القلب من جديد، ووطني أيضًا هو المدينة، حيث يتجلّى لك، في أعمق مكان من قلبك، المصطفى الحبيب…
فوداعًا يا مكة… بل إلى لقاء قريب، برحمتك ومَددك وتوفيقك ايها الواحد الأحد.



