عزلة العارفين وصهيل المتشاعرين

بقلم الاستاذ:مولاي الحسن بنسيدي علي
ليس كل اعتزال هروبًا، بل منه ما هو نجاة…
وليس كل انسحاب خيانة للمسار، بل أحيانًا هو أصدق أشكال الوفاء للنفس وللقيم.
نكتب لا لنشكو، بل لنوثّق زمنًا غريبًا… زمنًا تنكّر فيه التافهون لأهل الصدق، واعتلى فيه صغار الهمم منابرَ الكبار.
هنا شهادة ساخرٍ صامتٍ قرّر أن يرفع القلم بدل أن يلوّث اللسان…
قد يجد العاقل راحته في اعتزال بعض البشر، ليس كرهاً في الخَلق، بل حباً للسلامة… فالضجيج كثير، والصدى لا يحمل إلا نعيقاً!
كنا نظن – بطيب نية وربما بشيء من السذاجة الثقافية – أن بعض السلوكيات تساهم في ترقية الذوق العام، وتمنح للمدينة إشعاعاً فكرياً، لكن خاب الظن وتبخر الحلم حين اكتشفنا أن منابر الثقافة قد استبدلت بالكراسي الوثيرة، وأن الميكروفونات لم تعد تنقل الشعر، بل تنفخ في نهيقٍ فصيحٍ مدفوع الأجر مسبقاً!
ما طرقنا باب مسؤول، وما استرحمنا عطف مدير، استعنا فقط بالله… ذاك الباب الوحيد الذي لم يُغلق قط في وجوهنا، رغم كثرة الأبواب الموصدة بأقفال من جهل وعنجهية.
في سبيل ما اجتهدنا فيه من زرع بذور الوعي، تلقينا ما لذ وطاب من ضربات تحت الحزام، وبعضها جاء من أناسٍ كنا لهم سنداً ومتكأً، صفقنا لهم حين عزّ المصفقون، ورفعناهم حين كانوا أقزاماً أدبيين… فإذا بهم يعضّون أيدينا بدل أن يصافحوها، ويطلقون سهام التشنيع بدل كلمات الامتنان.
ثم جاء زمن “التَّمْيِيع الأدبي”، زمن المتشاعرين والمستقصين في القصّ، حيث صار كل من حفظ بيتين من ديوان مجهول، أو جمع سطراً من فيسبوك، شاعراً لا يُشق له نَصّ، وناقداً يوزّع الألقاب كما توزع الحلويات في الموالد!
ولأننا نؤمن أن “المؤمن لا يقف مواقف الاتهام”، فقد انسحبنا بهدوء، نلملم خيبتنا كمن يلملم بقايا وليمة أدبية نهشها الجهلاء.
قيل في الأثر: وما مواقف الاتهام؟ قال: هي كل محل يجلب شبهة. ونحن زدنا على ذلك: وكل منبرٍ يعجّ بصراخ المنفوخين، وكل كاميرا تحتفل بوجه لم يعرف نور القراءة يوماً.
أما حين صُبّ علينا سيل الإسهال الثقافي، فلم نملك إلا أن ندعو لهم من أعماق قلوبنا: اللهم ارزقهم بالأتْرَخْشاش والابْرَخْشاش… فقد يكون في الإسهال شفاء لما في عقولهم من علل!



