
في آخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي كانت جريدة ( التحرير) الناطقة باسم الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ، تطلق اسم ” صلاص ” على كاتب التعليقات التي كانت تبثها الإذاعة الوطنية ، محاولة بذلك تسفيه ما تبثه من أفكار حول نظام الحكم ، علما من طاقم التحرير أن الإذاعة كان لها تأثير على الرأي العام لانها كانت الجهاز الأساسي المسموع لانعدام المنافس في المجال الإذاعي ولغياب التلفزة في ذلك الحين .
كان الذين اطلقوا ذلك الاسم من طاقم التحرير في الجريدة يعرفون هوية من كان يحمل في الأصل هذا الاسم الذي يوحي بأنه شخص أجنبي ، ومن تم أطلقوه على المعلق الإذاعي لإشعاره بما سبق له أن ارتكبه من سلوك لدى ارتباطه بأوساط جيش التحرير في تطوان أعتبر خيانة .
كان الاعلام الاتحادي في ذلك الحين في صراع مع الاعلام الرسمي ويجتهد رجاله لتقديم ما يواجهون به الآراء المذاعة المتعلقة بطبيعة النظام الذي أريد له أن يطبق في المغرب ، مع إصرارالمسؤولين على محاربة أي رأي يخالف رأيهم وقمع من يدافع عن ذلك الرأي ، كما حدث سنة 1960 وكشف عنه اعتقال ومتابعة مديرجريدة التحرير المرحوم الفقيه محمد البصري ورئيس التحريرالمرحوم المجاهد عبد الرحمان اليوسفي بشأن ما ورد في مقال يشير إلى وجوب خضوع الحكومة لمراقبة الشعب.

وكان اعتقال الرجلين قد أحدث رجة سياسية نظرا لتاريخهما النضالي ولما كان لهما من مكانة سياسية ، ولكون بعض رفقائهم السياسيين يمارسون مهام سامية في تدبير شؤون الدولة ضمن حكومة عبد الله إبراهيم الني كانت توصم باليسار ، وكان أبرزهم الزعيم الإتحادي المرحوم عبد الرحيم بوعبيد .
كان عملي في جريدة التحرير مقتصرا على تتبع الشؤون الدولية ، كما حدده لي رئيس التحرير، ولذلك لم أعر الاهتمام في كل الأوقات لما ينشر عن صلاص ، ولم استفسر زملائي عن ذلك الاسم الغريب الذي أطلقوه على كاتب تعاليق الإذاعة الوطنية .
وحدث أن ارتبطت بحكم الجوار في حي بوركون بالدار البيضاء بشخص متقدم في السن يحمل أسم (صلاص ) فأثار ذلك فضولي ، لكنني لم أقدم على استفساره عن أصل الاسم الذي يحمله ، تاركا للأيام أن تكشف لي عن تفسير لغز هذا الاسم . ومع توثق صلتي بهذا الرجل ولعلمه بأنني منحدر من مدينته مراكش بدأ يحنو علي حنو الاب لفارق السن بيننا ، كما أن زوجته الفاضلة ” مي عيشة ” كانت تحن على زوجتي كحنوها على بنتها الوحيدة خديجة .
كانت أسرة هذا الجار سواء في سلوك أفرادها أو في حياتهم العامة أقرب الى سلوك وحياة الأسر الاروبية التي كانت في أوائل الستينات من القرن الماضي ما تزال تملأ كثيرا من عمارات حي بوركون المتميز بعماراته الراقية وشوارعه الفسيحة ، بالنسبة لما كانت عليه الدار البيضاء ، وهي عمارات شيدت على ما يبدو لإيواء المهاجرين الأروبيون الذين كانت تستقبلهم البلاد بعد الحرب العالية الثانية ، أملا من السلطات الاستعمارية في مضاعفة كتلة السكان الأروبيين في العاصمة الاقتصادية التي بدأت تعرف توسعا في نشاطها الصناعي والتجاري ، وفي إطار سياسة الاستيطان الاستعماري .
كان الصديق صلاص قد أتاح لي الاستئناس بالدار البيضاء ، بالرغم من أنه كان متحفظا ويتجنب ربط علاقات وثيقة مع سكان الحي ، على عكس زوجته ” مي عيشة ” التي كانت تهوى الحديث مع الجيران ولا تبخل في تقديم خدماتها لمن يستحقها ، وكانت كلما حل أحد من أقاربي من مراكش لزيارتنا ، تسعى لتوثيق الصلة به وكأنها توحي بارتباطها بهذه المدينة التي ينحدر منها زوجها . وكان صلاص في حديثه أقرب الى التفكير الأروبي منه الى التفكير
المغربي ، لاحتكاكه بصفة أكثر بالأروبيين بحكم عمله كمساعد لسماسرة الأملاك العقارية الأوربيين . ولاتساع معرفته بالدارالبيضاء كثيرا ما كان يتساءل أمامي ويقول ” أي مغرب هذا الذي تدعون ملكيته ، وكل العمارات والأملاك العقارية في البيضاء هي في ملك الأجانب ؟ “

والواقع أن العاصمة الاقتصادية كانت بالفعل في أوائل الستينات من القرن الماضي أقرب إلى كونها مدينة أروبية سواء من حيث سكانها أو ملاك عماراتها ، إذا ما استثنينا بعض الأحياء كالإحباس وعين الشق والمدينة القديمة ، قبل أن تبدأ البيضاء في التوسع تدريجيا لتضاهي من بعد المدن العالمية الكبرى.
لم يحدث لي أن سألت جاري صلاص عن الأصل في حمله لهذا الأسم الأروبي، ولا ما إذا كان هو إسمه الحقيقي ٠ وظل ذلك لغزا بالنسبة لي ، الى أن حدثني يوما عرضا أن له شقيقتين في فرنسا لايعرف أي شيء عن مصيرهما . ومن تم بدا لي الأمر وكأني عثرت على ( رأس الخيط ) ، كما يقال ، لإدراك سر تقاسم هذا الإسم مع كاتب التعاليق الأذاعية الذي لم اكن قد تعرفت عليه إلا فيما بعد ، ولم يكن في الواقع سوى المرحوم احمد زياد الصحفي المعروف الذي برز أسمه في جريدة ( العلم ) منذ تأسيسها بعد منتصف الأربعينات من القرن الماضي . ولقد تعرض لمشاكل مع قيادة جيش التحرير في تطوان فاستدرجه أحد قادته واصطحبه معه الى القاهرة حيث طلب من القيادة المصرية اعتقاله ، وظل رهن الإعتقال إلى أن افرج عنه بمناسبة زيارة الملك محمد الخامس رحمه الله لمصر ضمن جولة في العالم العربي لإحياء صلة الرحم مع قادة وشعوب أقطاره .
فمن اطلق أسم صلاص على كاتب التعاليق الأذاعية ؟ ومن أين استمد هذا الاسم ؟ وأي جامع بين صاحبه الأصلي والمرحوم أحمد زياد ؟
هذه الأسئلة دفعتني الى البحث وبمدينة مراكش بالضبط ، لأصل في النهاية الى أن صلاص هو أسم جاسوس فرنسي كانت أخباره التي ترددت في وقت من الأوقات ، ثم بدأت تخبو على غرار أخبار باقي الجواسيس الفرنسيين الذين استوطنوا بعض جهات المملكة لفترة من الفترات ليقدموا لبلادهم ما يساعدها على أن تتم عمليات احتلال المغرب بأقل ما يمكن من الخسائر ، وكذلك كان الأمر .
كان ما كشف لي عنه جاري صلاص بشأن وجود شقيقتين له في فرنسا لم يسبق أن ربط الاتصال بهما ، وكذلك ما عرفت عن انحداره من مراكش قد حدا بي الى البحث في هذه المدينة عما إذا كان ما يزال من له معرفة بقصة الجاسوس الفرنسي صلاص التي يرجع عهدها الى أوائل القرن الماضي نقلا عن الرواة الذين كانوا مايزالون يتحدثون عن أحداث تلك الفترة التي شهدت أيضا سطوة قواد قبائل الجنوب أمثال الكندافي والمتوكي والكلاوي الذين تعاونوا مع جواسيس فرنسا تمهيدا لاحتلالها واستعمارها للبلاد ، . وحسب الروايات التي استقيتها من الشيوخ فإن الجاسوس صلاص كان قد استوطن مراكش بصفته فقيها وداعية إسلاميا جاء من تركيا ، ولم يكن أي واحد يشك في انتمائه ، وظل يحظى بالاحترام والتقدير لكونه ، كما ادعى جاء من بلاد الخلافة العثمانية الإسلامية التي تبسط سلطتها على أقطار المشرق العربي .
ولقد ظل المراكشيون يتناقلون أخبار هذا الجاسوس الفرنسي إلى جانب أخبارالطبيب موشان الذي قتلته الجماهير الغوغاء ، لما رفع العلم الفرنسي فوق مسكنه متحديا السكان . ولتكريمه أطلقت السلطات الاستعمارية أسمه على مستشفى أقيم في حي سيدي ميمون . وكان مقتل هذا الطبيب قد اتخذته فرنسا مبررا لغزو المغرب سنة ١٩٠٧ باحتلال مدينة وجدة انطلاقا من الجزائر والهجوم على الشاوية بحرا انطلاقا من الدار البيضاء ووصولا الى مراكش ، قبل أن تفرض على المغرب نظام الحماية سنة١٩١٢ . ثم بدأت القوات الاستعمارية تكتسح مختلف جهات المملكة المغربية ولم تتمكن من إنهاء سيطرتها على البلاد إلا في سنة١٩٣٤ .
كان صلاص الجاسوس قد تزوج مغربية وأنجب منها شقيقتي صلاص السمسار الذي قد يكون هو نفسه ابن له ولا يرغب في أن يعرف أي أحد أصله . ويحكى أنه عندما دخلت فرنسا الى مراكش كشف الجاسوس عن هويته وأعلن لاسرته عزمه على الرحيل والعودة إلى فرنسا ، فامتنعت زوجته عن مرافقته بعد أن هجرته ، ولكنه رحل وأخذ معه الشقيقتين اللتين أنجبهما دون ابنه صلاص الذي انتقل ألى الدار البيضاء حيث استقر تاركا مراكش لاهلها الذين ظلوا يروون بمرارة قصة الجاسوس الذي غدرهم بانتحال صفة فقيه وداعية جاء ليعلمهم ويرشدهم ، فانساقوا له مرددين المثل القائل من خدعنا بالله انخدعنا له ، دون أن يكونوا قد كلفوا أنفسهم التحقق من هويته الحقيقية ، ودون أن تكون هناك سلطة و اعية للكشف عن ما يهدد البلاد في تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب . .
الدار البيضاء ٢٠ماي ٢٠٢٠



