أخبارالرئيسيةثقافة و فن

التاريخ كنص غائب في السينما المغربية

  • بقلم: د.عزيز زروقي

إن أية مقاربة للمادة السينمائية تفترض تحديد نوع العلاقة التي تربط المجتمع بالإنتاج السينمائي في جميع مراحله. والأكيد فلمدة طويلة ظلت السينما المغربية الهادفة هما نخبويا يتحدث عنها “ويتفلسف” في مواضيعه المثقفون. أما عموم الشعب فاتسمت نظرتهم للسينما بسلبية مفصح عنها، فهي بالنسبة لرجل الشارع في أحسن أحوال سلعة للتسلية، لا يمكنها أن تؤدي أغراضا تربوية أو تأطيرية.

وهذه الإعاقة الثقافية دفعت بالمخرجين إلى البحث عن طرق ملتوية لمعالجة جوانب من المقاومة الوطنية، عبر الزج بها في إطارات فضفاضة تستهوي المشاهد وتجدبه إلى قاعات العرض. يبرز عبد الرزاق الزاهير معتبرا أن للسينما دورا فعالا في صنع تمثلات المجتمع وقيمه وأحلامه، وهي فعالة في نشر أنظمته الفكرية والقيمية والاقتصادية خارج حدود مجتمعها.

أبحاث عدة تميل للأخذ بدرجة عناية المجتمع وعلاقته بإرثه الثقافي وذاكرته، لإصدار أحكام حول تخلف الشعوب أو تقدمها. ما يحيلنا على سؤالين: – ما موقعنا نحن عربيا في هذا الباب؟- ما مساحة الممكن الاشتغال عليه، بحثا وإبداعا وصورة في زمن رقمي بامتياز؟ تمثل وسائل الإعلام أهم قنوات الترويج لمكونات الذاكرة. فبفضلها تنتقل من منظومة فكرية ونظرية إلى فعل اجتماعي ذي دلالات ومردودية، وداخل هذه الوسائل، تتميز السينما بفعاليتها في ترويج لثقافة الذاكرات، لأنها تعتمد مجموعة من العناصر الفنية والتقنية تؤهلها للانتشار والنفاذ والتأثير.

وعليه، كان طبيعيا أن تهتم الصناعة السينمائية رغم تواضع مؤهلاتها المادية بالمقاومة المغربية، وتعرض بعض صفحاتها وفق تقنيات متنوعة اعتمدت الانطلاق من وقائع تاريخية، لاستحضار قيمة ثابتة طارئة مؤسسة للشخصية المغربية. للإبداع السينمائي دور مهم في حقل صيانة الذاكرة التاريخية للأمة، وذلك لما أصبح للسينما والوسائل السمعية البصرية من ثقل في توجيه الرأي العام وغرس القيم وصهر الذهنيات والقناعات، خصوص عند استحضار ضعف القراءة والشغف بالتلفزيون والسينما، ومن ثم سهولة إذكاء جذوة التاريخ والذاكرة، والافتخار بالأمجاد في نفوس الأجيال الصاعدة عبر هذه الوسائط.

من هنا فالحديث عن الحدث التاريخي ليس بإمكانه أن يؤسس لوطنية السينما المغربية، إلا إذا أسس لمشروعية الرؤية المخالفة لما هو سائد في توظيف التراث في المجال الإبداعي، وفيما يخص عملية التأريخ ذاتها كعلم، لهذا ستبقى كل عملية للاشتغال على التاريخ في بعده السطحي لاغية، وسيتم تأجيل مسألة تأسيس السينما المغربية حتى يعيد المبدع المغربي النظر في تعاطيه مع الموروث التاريخي والتراث الثقافي المغربي عامة.

إلا أنه مهما كان فإن الاشتغال على التاريخ كخلفية فكرية وجمالية للمتخيل السينمائي، يجب أن يحكمه أولا وأخيرا ؛ شرط تفجير الذاكرة والقول بشرط التفجير، يعني ضرورة اعتماد البحث التاريخي والحفر الأنتروبولوجي في ما يخص قضايا ومواضيع ومؤثثات الكتابة الفيلمية، سواء تعلق الأمر؛ بالجسد، أو اللباس، أو بالتحريم، أو بالسلطة، أو بالمرأة، أو بالأشكال الجمالية، وبالمتخيل ذاته…رغم انفتاح السينما الوطنية على مكونات التاريخ والذاكرة في بعض التجارب المختلفة، فإن العديد من الأعمال السينمائية الوطنية، لم تتحرر بعد بالشكل المطلوب من تأثير رواسب “ذاكرة الحماية” النمطية، وهيمنة البعد الأيديولوجي في توظيف المعطيات، والأحداث التاريخية، بشكل قد يعرِّض الذاكرة الجماعية للتشويه، والتشويش والتعتيم.

أسعى في حديثي عن التاريخ كنص غائب في السينما المغربية إلى ضبط طبيعة اشتغال التعلق النصي المميز للعمل الإبداعي، وللإبداع الفيلمي بشكل خاص. والتعلق النصي أو التناص هو هذا التداخل النصي الذي ينتج داخل النص الواحد، وهو المفهوم الوحيد الذي سيكون المؤشر على الطريقة التي يتداخل بها النص مع التاريخ، ويقرأه بها. ولأنه ( التناص) من ميزة كل عمل فني، يمكن أن نتحدث عن دخول الفيلم أيضا في علاقة مع واقع الماضي، وهذا ما يدفعنا لرصد أثر مجموعة من الأحداث والنصوص، والوقائع التاريخية المهاجرة، عبر متخيل للفيلم المغربي.

ويمكن حصر مرجعيات عديدة للأحداث التاريخية التي يتم تمثلها من أفلام مغربية في مايلي:

-أحداث الحماية: التي اشتغلت عليها الأفلام المغربية من سبيل: “الذاكرة 14” – “السراب” – ” معركة أنوال” -” 44 أو أسطورة الليل” – ” كابوس” – “بامو” – أوشتام” و”أصدقاء الأمس” – “أيام من حياة عادية” – “عطش”.

-أحداث الاعتقال السياسي: التي انحصرت في أفلام: ” بيضاوة” – “أيام من حياة عادية” -” علي ربيعة والآخرون” – “درب مولاي الشريف” – “جوهرة بنت الحبس”.-أحداث طرد المغاربة من الجزائر: التي اشتغل عليها فيلم ” مأساة الأربعين ألف”.-أحداث الاضطهاد العنصري: في فيلم “أموك”.-

أحداث التاريخ الفرعوني: في فيلم ” ظل فرعون”. لابد من تسجيل ملاحظات من خلال الوقوف على مرجعية النص التاريخي الغائب في الأفلام المغربية: -ضمور الاشتغال بالتاريخ في السينما المغربية، خاصة بالنسبة للمشاريع الكبرى المرتبطة بوقائع شخصيات ذات أهمية كبرى في تاريخنا العام.

-طغيان الفيلم الروائي على الفيلم التسجيلي فيما يخص الاشتغال بالمادة التاريخية.-عدم تبلور الاشتغال بالتاريخ كهاجس مركزي عند السينمائي المغربي.

عموما يلاحظ أن المرجعية التاريخية في الأفلام المغربية قد تنوعت بين:-التاريخ المغربي: تنوع بين تاريخ الحماية، وتاريخ الاعتقال السياسي.-التاريخ الإنساني: في أفلام سهيل بن بركة “أموك” و “ظل فرعون”، وغياب تام لأثر التاريخ القومي؛ خاصة تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وتاريخ القضية الفلسطينية، باستثناء بعض الإشارات الصغيرة من مثل “العدوان على لبنان” الذي يشير إليه فيلم “حلاق درب الفقراء” من خلال أخبار الراديو، وهناك من يرى أن هذه الإشارة مقحمة إقحاما في الفيلم. وقد كان بإمكان محمد الركاب أن يسد هذا الفراغ من خلال مشروعه “مذكرات منفى” لو لم يرغمه الموت على الانسحاب.

لنرى كيف جاء فيلمه “حلاق درب الفقراء” الذي أنتج سنة 1982م؟ يروي الفيلم قصة ميلود الحلاق الفقير المنطوي على نفسه، و الضعيف الإرادة، والمستسلم للأقدار الذي كان يعيش مع زوجته محجوبة بالبيت المتواضع. مما كان يسبب بينهما خناقا مستمرا، وحميد الذي عاش صباه في البادية حتى نبده أبوه.

فلجأ إلى المدينة حيث أصبح يعيش حياة هامشية داخل السجن بسبب السرقة، و يقضي فيه مدة معينة، وبعد خروجه منه يقوم بزيارة صديقه ميلود الذي يقيم علاقة طيبة معه، ولكنه يختلف عنه، ويؤاخده امتهان السرقة التي يعتبرها حميد تعبيرا لثورته ضد أبيه، وهذان الصديقان رغم محبتهما لبعضها يبقيان مختلفان.

عندما أخرج محمد الركاب شريط “حلاق درب الفقراء” لم يصور الفقر المادي بشكل يدعو للتقزز أو التعاطف البخيس، لأن الفن الحقيقي ليس بالضرورة هو ذلك الذي يلتصق بالبؤس في حد ذاته، إلى أن يصير فنا بئيسا. الركاب اكتفى بنقل مختصرات عن فقر النفوس، وبؤس العلاقات، فقر الأغنياء الذين لا يستنكفون عن دوس كرامة البلاد والعباد، كما فعل ذلك جلول. بؤس الأنفس الوجلة والقلوب التي يتملكها الخوف، مثل ميلود الذي يحمد الله كل صباح على أنه باقي على قيد الحياة، بؤس ناس الدرب الذين يعيشون الضحك على أنفسهم.

من الملاحظات التي يمكن تسجيلها أيضا كون بعض المخرجين القلائل اشتغلوا على ذاكرة التاريخ لبناء متخيل فيلم لهم ولهذا دلالته بالنسبة لحالتين هما:- سهيل بن بركة الذي حصرت له فيلمي هما: “أموك” و “ظل الفرعون”. ويظهر من خلال طبيعة النص الغائب في هذه الأفلام أن المخرج قد فضل نوعا من الهروب، إلى التاريخ الإنساني ( الميز العنصري و التاريخ الفرعوني) ليجنب نفسه الإحراج الذي تتطلبه مواجهة أسئلة التاريخ المغربي.

-أحمد البوعناني: أخرج فيلمين اعتمادا على ذاكرة التاريخ وهما: “السراب ” و ” الذاكرة 14″. ويظهر لنا من خلال الرجوع إلى الخطاب الفيلمي لهذا المخرج، أنه يؤكد انتماءه إلى فئة السينمائيين القلائل الذين يسعون بالفعل إلى تأسيس مشروع السينما الوطنية.

ولذلك جاءت كثافة الاشتغال على الحدث التاريخي لديه لتدعم الرؤية المؤسسة لإبداعية عمله، لأن هذا الجانب هو الضامن الرئيسي لتأصيل التجربة السينمائية المغربية. ويمكن أن أشير أيضا إلى ملاحظة أخرى هي كون المتن الفيلمي المشار إليه سابقا ينقسم إلى قسمين:

-قسم تسجيلي: “الذاكرة 14” -قسم روائي: باقي الأفلام. كثير من يظن أن سينما المقاومة، هو الصعود إلى الجبل وحمل السلاح، كلا بل سينما المقاومة هي التي تهتم بالشخصية المحلية، وبالهوية، وتعيد للإنسان المغربي والعربي بصفة عامة ثقته بنفسه، هذه هي السينما التي نبحث عنها، وهي التي تحمل هما معرفيا وثقافيا مجتمعيا، تسعى من خلاله إلى أن تكون فاعلة داخل المجتمع، وتصبح أداة توعية وتغيير في صلب المجتمع. وسلاح تحريك وتحريض ومواجهة، حاملة صورة الإنسان المغربي والعربي مثلا ونموذجا. فماهي المسلمات التي على السينمائي أن يسخرها في الكتابة الفيلمية وهو يشتغل على الذاكرة والهوية والمقاومة والذات ؟ إن اشتغال السينمائي في حقل الذاكرة والهوية والمقاومة والذات يفرض عليه أن ينصهر كليا في القدر الذي يفرض عليه أن يسخر هذه الآلة الفنية لخدمة المسلمات التالية:

-التأكيد على الهوية الوطنية.-رد الاعتبار إلى الثقافة المحلية.-مقاومة الخطابات الإمبريالية.-انتشال التاريخ المحلي من هيمنة الغرب المستبدة.-إحياء مناقب كل ما هو جزئي ومحلي وتابع.-إفساح المجال للبحث في المقاومة حتى تغطي مساحة أكبر من الاهتمام.-فضح التسلط الذي تستنبطه العقلانية الحديثة.-الرفض المطلق لأحادية المركز(الغرب).-مقاومة الترحيل إلى الهامش والطراف.-الدعوة إلى التعدد والتنوع والاختلاف.-مقاومة أشكال التقطيع الجغرافي العولمي (محورالخير، ومحور الشر).-مناهضة وضع الثقافات المقاومة في خانات المتخلف، والتابع والتقليدي، والرجعي والقاعدي والإرهابي.

تعد هذه المسلمات من بين الوسائل الحقيقية للدخول في مختلف خطابات العالم على قدم المساواة. يتضح لنا جليا أن هذا التوجه يتأسس على خلفية قناعة الانعتاق من فكر الحماية من جهة، والفكر الوطني الإقصائي من جهة أخرى. إننا نحاول فقط بيان أنه بإمكاننا إلقاء نظرة أخرى على الحماية، وأن ذلك يمكن أن يحصل اليوم، مع الثقة الجديدة التي تقدمها لنا المسافة الزمنية التي تفصلنا عن هذه المرحلة.

لابد من الانكباب على المنافذ المغلقة في تاريخ المقاومة المغربية ومحاولة تقديمها في حلة إبداعية سينمائية، والاشادة والاعتراف بالذين ساهموا في صنع أحداث وفصول المقاومة المغربية. وإعطاء حق الكلام للذين همشوا وعوقبوا بالتغييب القسري، وحتما هذا يفضي إلى الاهتمام بالتاريخ الجزئي للمقاومة المغربية في أدق تفاصيلها وأبعادها. وإعطاء حق الكلام والتعبير وصياغة تاريخها الخاص، وإيجاد أسلوب تواصل مع الأبعاد الأخرى لصناعة تاريخ محلي، منصف بتبني سينما المقاومة للرهان الوطني الحقيقي، والمتمثل في إبداع مبدأ المواطنة.

حينما تترسخ الوطنية وتصبح ممارسة ثقافية؛ إداك تنتقل المواطنة من كونها مجرد توافق أو ترتيب سياسي تعكسه نصوص قانونية، لتصبح الوطنية قيمة اجتماعية وأخلاقية وممارسة سلوكية، يعبر أداؤها من قبل المواطنين عن نضج ثقافي، ورقي حضاري، وإدراك سياسي حقيقي لفضيلة معاملة جميع المواطنين على قدم المساواة، دون تمييز بينهم بسبب الدين، والمذهب والعرق والجنس.

فالمواطنة إذن، تحتاج إلى “تضحية” أولية تعترف بها وهي “تضحية” الدولة الحديثة. لقد أفضت عملية نقد الإبداع السينمائي ببعض المهتمين بهذا الحقل، الدعوة إلى إعادة تركيب التاريخ، واعتبارها القضية الرئيسية بالنسبة للسينمائيين المغاربة خاصة فيما يتعلق بموضوع الحماية، لكن إعادة التركيب هذه لا تبقى إجازتها رهينة بمدى تقييمها للشخصيات التاريخية التي ساهمت في صنع تاريخ المغرب من جهة، ونجاحها في عملية إحياء هذه المرحلة بكل مقوماتها من جهة ثانية.

ينضاف إلى هذا وذاك، التشديد على ضرورة فتح إمكانات التفاعل والتشارك بين المؤرخ والسينمائي، وذاك انطلاقا من استغلال الأعمال السينمائية التاريخية من طرف الباحث والمدرس لمادة التاريخ. وعليه فإنها حتما تفتح مجالات جديدة للبحث، وتصبح السينما مصدرا من مصادر التاريخ، ويغدو الفيلم التاريخي يشكل قراءة فنية تثري البحث التاريخي. لكن على الرغم من ذلك، فإن مسألة أفلمة التاريخ وسنمأته هي عملية شائكة، تمثل حركتها صعوبة توجيه التاريخ للعمل السينمائي، مادامت أن العملية تشكو من عنصرين يشكلان قطبي الرحى ؛وهما:- غياب المؤرخ في المشهد السينمائي. -صعوبة تنصيص التاريخ وأفلمته.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button