أخبارأخبار سريعةمجتمع

تمازيغت و تمغربيت و الهويات القاتلة

هل الصمت ممكن؟

مؤكد.. لا..

لم يعد الحياد فضيلة، فما يحدث اليوم في المغرب من جدل حول “التمغربيت”، ومن تشظٍّ في الدفاع الأهوج وأحيانًا الأعمى عن الأمازيغية أو الحسانية، ليس إلا انعكاسًا لانتحار رمزي بطيء، يُستبدل فيه الشعب وحدة الانتماء بتمزقات تعززها الأجندات السياسية والإيديولوجية، وتُذكيها نيران الهويات القاتلة، كما سماها أمين معلوف.

بقلم: د. مهدي عامري

أليس عجيبًا أن يتحول النقاش حول الهوية من فضاء للتلاقي والتكامل، إلى ساحة معارك لفظية وانتماءات انغلاقية، تُفتّت الجسد المغربي، وتُقزّم طموحاته في صراع عبثي بين مكونات تُشكّل كلها نسيجه العميق؟ وهل يُعقل أن تُختزل الهوية في لغة، أو لهجة، أو حتى جغرافيا؟ ألا نعي أن الهوية، في جوهرها، لا تُبنى على ردود الأفعال، بل على وعيٍ تاريخي شامل، وعلى مشروع حضاري يتجاوز الانتماء الضيق؟

لقد أضعنا – بلا شك – وقتًا ثمينًا، وجهدًا كبيرًا، في الدفاع العاطفي عن مكوّنات أمازيغية أو حسانية، وكان حريًّا بنا أن نؤسس لنقاش وطني حقيقي، لا يُقصى فيه أحد. فالمغرب لم يكن يومًا أحادي المكوّن، ولا ملكًا لفئة دون أخرى. إنه كينونة هجينة، مُركّبة، متشابكة، من الأمازيغي والعربي، من الروح المتوسطية والعمق الإفريقي، من الإسلام والحداثة، من القبيلة والدولة، من الحاضرة والبادية.

إن “التمغربيت”، هذه التقليعة الجديدة، تُسوّق كأنها الخلاص. لكنها، في حقيقتها، قناع جديد يُخفي فشل النخبة السياسية والثقافية في إنتاج مشروع وطني شامل. إنها شعارات ترفعها الدولة حين تعجز عن صياغة خطاب جامع يُلهم الشعب ويحرّك آفاقه. إن “التمغربيت” كما تُطرح اليوم، ليست هوية، بل تمويه. ليست أفقًا، بل سردية رسمية تُسَوِّق التماثل وتخشى الاختلاف. إنها محاولة لتأميم التعدد، ولتعليب التنوع داخل قالب فولكلوري يُعرض في المهرجانات ويُقتل في المدارس.

اسمعوني جيدًا: الهويات ليست شعارات. إنها بناء مستمر. والهويات الواسعة التي تحمي الشعوب من الانقسام، لا تُصاغ بالصيحات ولا تُفرض بالقوانين، بل تنبثق من مشروع قوي، من رؤية حضارية، من خطاب سياسي مثقف يعترف بالاختلاف ويؤسسه كثروة، لا كتهديد.

ولعل أخطر ما في هذه النزعة التمزيقية هو أن كل مكوّن بات يرى في الآخر خصمًا، لا شريكًا. فكل طرف يطالب بالتمكين، لا بالتعايش. والكل يُضمر في داخله شعورًا بالمظلومية التاريخية، ويبحث عن خلاصه الخاص، ولو على حساب الوطن. إنها قنابل موقوتة، زُرعت في المدارس والجامعات والمواقع الاجتماعية، تنفجر تدريجيًا، فتُشظّي الانتماء الواحد إلى انتماءات صغيرة، تُفتّت الدولة، وتُضعف الأمة، وتُفسح المجال لتدخلات خارجية تدّعي الحماية وتُخفي الهيمنة.

أليس من العبث أن يُنسب المغربي إلى جذوره الضيقة بدل نسبته إلى إنسانيته الرحبة؟ أليس من البؤس الفكري أن يُرفع شعار “أنا أمازيغي أولًا” أو “أنا حساني قبل كل شيء”، بينما يتطلب المشروع الوطني وعيًا متوقدا، قائمًا على المواطنة والعدالة والكرامة؟ هل نحتاج لتذكير الجيل الجديد أن اللغة، أياً كانت، ليست إلا وسيلة للتعبير، لا هوية نهائية مغلقة؟

إن الهوية الواسعة الوحيدة، التي لم تعرف الانغلاق، والتي تتجاوز كل التشنجات، هي الإسلام. لا باعتباره أيديولوجيا، بل منظومة قيمية، حضارية، أخلاقية، جامعة مانعة. فالإسلام، كما فهمه ابن خلدون، هو تعاقد روحي وعقلي متين بين الناس، وهو ما مهّد لقيام حضارة عربية أمازيغية أندلسية إفريقية عريقة، لا مكان فيها للتمييز على أساس عِرقي أو لغوي. إن الإسلام هو الذي صاغ وحدة المغاربة، وهو لا يقفز على التاريخ، ولا يُقصي اللغة، ولكنه يضع الكرامة الإنسانية فوق كل اعتبار.

أما منطق الانغلاق الجديد، فهو انتحار ناعم، لا يترك جثة ظاهرة، ولكنه يُفرغ الإنسان من المعنى، ويحوّله إلى مجرد مستهلك لهوية جاهزة، تُروَّج عبر إعلام تافه، ومحتوى فلكلوري، وخطاب تبسيطي مدمّر.

إن الانتصار لهوية دون أخرى هو سقوط في الفخ ذاته الذي مزّق العراق، وشظّى السودان، وجرّ لبنان إلى حافة الزوال. فكلما ضاق أفق الانتماء، اتسعت هوة الخوف، وتكاثر زعماء الطوائف، وتقلّص صوت الدولة.

يجب أن نكفّ عن هذا العبث. يجب أن نتوقف عن إنتاج الخوف من الآخر. المغربي ليس مشروعًا للهوية بل مشروع حضارة. والمغرب، إن أراد أن يكون كما نرجو له، لا بد أن يتصالح مع كل مكوناته، لا أن يُنتج سرديات مختزِلة تقتل التعدد باسم الوحدة، وتفتّت الوحدة باسم الأصالة.

إن الانتماء الأرحب، الذي يليق بنا، هو أن نُعيد وصل المغرب بأفقه الحضاري العالمي، لا أن نُنزله إلى زوايا ضيقة من التموقع العرقي أو اللهجي، وأن نُصغي لتاريخنا العميق، ونُحرّر أنفسنا من ثقل الخطابات الشعبوية التي تُسوّق لهويات مفروضة من فوق، لا منطلقة من أسفل. فدعونا نفكر إذًا كمغاربة ينتمون لعالم يتغير بسرعة، لا كقبائل تبحث عن الشرعية في نصوص التاريخ.

إنه زمن الانفتاح، لا زمن التحصّن. إنه زمن التفكير في مغرب المستقبل، لا في ماضٍ يُعاد تدويره لخدمة أجندات سياسية مؤقتة. فمن كانت له غيرة على الأمازيغية أو الحسانية أو الدارجة، فليعمل على تنمية الإنسان المغربي المنفتح، لا على تخدير وعيه بهويات زائفة تُبرمج في مختبرات الدولة ثم تُحقن بها العقول.

لقد تعبنا من التمويه، ومن “الفلكلرة”، ومن اللعب بالنار تحت غطاء التعدد. حان وقت الكلام الجاد. فالمغرب أكبر من أن يُختزل في لهجة، أو في رقصة، أو في شعار. إن المغرب وطن يُبنى على مشروع سياسي، تربوي، ثقافي، يجعل من كل مكوناته مادة لبناء الإنسان، لا لتمزيقه.

أيها السادة… افتحوا أعينكم، فالمستقبل لا ينتظر المترددين. والمغرب، إن لم يبن هويته الجامعة، سيتحوّل لا محالة إلى فسيفساء تُغري بالتحطيم أكثر مما تُغري بالبناء. فدعونا نعلو فوق الصغائر، ونبني هوية كبرى، اسمها: المغرب العالمي ذو الأفق الإنساني الكوني الرحب.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button