متى يفقد الناقد حرمته؟

بقلم :القبطان عبدالله دكدوك
لقد دفعتني مشاهد شاذة، حكمتها الشهادات والحجج، إلى أن أتوقف، لا بعيون المستهلك، بل بعين الفاحص المتأمل.وإذ أكتب هذه السطور، فلست أمارس انفعالاً لحظياً، بل أستند إلى رجاحة فكر وتجربة ميدانية ومصاحبة نقدية طويلة للمنابر، والمواقف، والأقلام.
نعم، أكتب هذا المقال لأنني أرى أن النقد، في بعض الأوساط، لم يعد يقوم بوظيفته التنويرية، بل تحوّل إلى منصة للمزايدة، وسيف للتطاول، ومجالٍ لتصفية الحسابات.
الناقد يفقد حرمته يوم يتحوّل من عقلٍ محلل إلى لسانٍ متسرع، من حامل لرؤية إلى مُكرِّرٍ لنفسه، من باحث عن المعنى إلى مستعرضٍ للذات.يفقدها حين يتفاخر بجهله، ويستطيب التفاهة، ويتعامل مع النقد كأداة للتهديم لا للتقويم، فينقلب ميزان الذوق، ويتحول الفكر إلى معيشة، ويُمحى الأثر في حساب الزوال.وأعجب، بل أستنكر، من أولئك الذين يرتدون عباءة الناقد، ثم لا يمارسون إلا سلطة الأستاذية وكأنهم يوزعون صكوك الغفران في ساحة الأدب والفكر:هذا مبدع… وذاك لا.
وهذا يستحق التقدير… وذاك لا مكان له.لا يُحرّكهم وعي سلوكي نقدي، ولا استحسان معرفي، ولا حتى إحالة للتحصيل أو القراءة.بل يُحرّكهم ذلك الغرور الذي يجعلهم يرون أنفسهم مرجعية مطلقة، متناسين أن النقد ليس سلطة أخلاقية بل مسؤولية تحليلية، لا توهب إلا لمن وُهب الصبر، والانفتاح، والتواضع أمام النصوص.أنا لا أعني شخصًا بعينه، ولكنني أتكلم عن من تهاون في فهمه، ولم يُدرِك أن الفرق كبير بين التقدير والصبر على الترهات.
فلكل طعامٍ ملحه، وعلى الناقد أن يسقي فكره بملح الطعامة لا بملح التفاهة.أما كثرة الاستهتار، فلا تولّد إلا التشويش، وإن غاب الفهم حلت الأهواء، وإذا غابت المدرسة، أُفرغ الكرسي من علمه.
أقول “الناقد”، وأعني به ذلك الكائن المركب، الساعي إلى الفهم، المتسلح بأدوات الإدراك لا بسفاهة التحامل، ولا بهوس تصفية الأغراض.ويا من ظننتم أن النقد جواز سفرٍ للتطاول على الأطواد، فقط لأن زمانهم خفت، اعلموا أن الاجتهاد للتعايش ومجاراة المدارس الجديدة أولى لكم من نصب مقاصل الحقد.
فالإبداع لا يتوقف، والمناهج تتجدد، ومن يعجز عن المواكبة، يسقط، ولو علت نبرته. وأسأل بصوت الحق لا الرياء، موجّهًا كلامي لكل ناقدٍ أدركه العجز، وجعل من أدواته متحفاً بدل أن تكون جسراً إلى الغد: هل أدواتك النقدية ما تزال قادرة على تحليل رواية تفاعلية أو قصيدة شعرية او رقمية؟ هل تجرؤ على الانتقال من منطق “المرجع الأوحد” إلى فضاء ما بعد الحداثة؟ هل تعرف أن السيميائيات ليست فقط مصطلحات، بل وعيٌ بالبنية، وإدراكٌ للسياق؟ كم مرة كتبت وأنت مدفوع بالشغف لا بالغضب؟ كم مرة تفكّكت نصوصك لا لهدمها، بل لإعادة تركيب الفهم؟ هل أنت قارئ متعدد العيون أم أسير لمقاربة واحدة؟ هل أنت ناقد فعلاً؟ أم مجرد تكرار لصدى قديم لم يعد أحد يُصغي إليه؟..ولأني أعلم يقينًا أن هذه الكتابة، بما فيها من عمق وصرامة ووضوح، ستوقظ عُقدًا كثيرة في نفوس من لامسهم المقال أو أوجعهم صوته،فإني أختم لهم بهذا الرد، البليغ في إعجازه، الصادق في مقصده، الواضح في رسالته:”أنا لا أكتب للخصومة، بل أسعى للتقويم… لا أضرب الأسماء، بل أطرق الأفهام… والقبطان حين يرفع صوته، فلأنه يحمل مسؤولية، لا عُقدة.”
من شاء فليغضب… ومن شاء فليتعلم.



