أخبارالرئيسيةفي الصميم

وجهان لعملة واحدة : حين يُقارن الشيطان بأخيه

راج في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي زحمة الدم والصور المتدفقة من مشاهد الحروب، تعليقٌ يتردد على الألسنة بنبرة ساخرة ومخنوقة بالمرارة: “بوتين أرحم من نتنياهو”.

بقلم: د. مهدي عامري

ومن المضحك، بل من المبكي، أن يصل الوعي الإنساني إلى هذا الدرك الذي يُفاضل فيه بين شيطانين. فهل حقًا تغيّرت معايير الرحمة إلى هذا الحد، حتى صرنا نبحث عنها في وجوه الجلادين؟الواقع أن كليهما، بوتين ونتنياهو، وجهان لعملة واحدة: عملة الشر.

فلا فرق بين من يقصف ماريوبول ومن يدمّر غزة، بين من يبرّر غزوه بخرافة التاريخ ومن يشرعن جريمته بخرافة “الوعد الإلهي”. كلاهما، في نهاية المطاف، يُسقِط الإنسان من عليائه، ويستبدل لغة الحقوق بلغة النار والحديد.

لسنا هنا في مقام المقارنة السياسية الباردة، بل أمام لحظة انكسار أخلاقي عميق، تُقارن فيها الكارثة بكارثة أكبر، والجريمة بجريمة أشدّ فتكًا.

وكأنّ الإنسان لم يعد يُدين الشر، بل يقيسه بحسابات الأذى الأقل. ولعمري، ما أشدّ سقوط منطقٍ يُقارن الشيطان بأخيه! قد يقول قائل: على الأقل، بوتين لا يتبجح بقتل الأطفال، ولا يحاصر الملايين في بقعة صغيرة من الأرض كما يفعل نتنياهو.

ولكن هذا التبرير ذاته، إهانة للضمير قبل أن يكون دفاعًا عن موقف. إذ لا يُغفر القتل لأنه تم بصمت، ولا تُبيَّض صفحة المجرم لأنه أقل استعراضًا في جريمته.

إن ما يدفع بعض الناس لهذا الوهم ليس العقل، بل ما تُغذيه آلة الإعلام المعولمة من صور مغشوشة، وسرديات منحازة. فالإعلام اليوم لا ينقل الحقيقة، بل يُصنّع الانطباع. فيبدو القاتل، إن تأنّق في ملبسه ونبرته، أكثر “رحمة” ممن صرخ وتوعّد.

وهكذا، يُصوَّر بوتين كمحارب “شريف”، ويُقدَّم نتنياهو كقائد “مظلوم”، بينما الحقيقة تُغيب في خلفية مشهد يغيب عنه الشهود.لكنّ التاريخ لا يرحم.

قد يغفل اليوم، وقد يتأخّر في إصدار أحكامه، لكنه لا ينسى. وسيأتي يوم تُكشف فيه الجرائم، لا بحجم الخراب فحسب، بل بعمق الجراح التي لا تندمل. وسيدرك من قارَن الشيطان بأخيه أنه لم يكن محايدًا، بل سقط في مستنقع التمييع الأخلاقي، حيث تُبرَّر الفظائع باسم الواقعية، وتُمنح الرحمة لمن لا يعرف إلا البطش.

وانطلاقًا من كل ما سبق… هل صرنا نحن – شهود العصر – عاجزين عن رفض الظلم إلا إذا فاق سقف التوقعات؟ هل أصبح الضمير الأخلاقي خاضعًا لمقارنة نسبية بين الطغاة؟ إن أخطر ما نعيشه اليوم ليس فحسب عنف بوتين أو جنون نتنياهو، بل تآكل قدرتنا على الحكم الأخلاقي، وضياع البوصلة في زمن الهرج.

وبالتالي، لا داعي لأن نُبرّر الشر لأنه الأقل، ولا يليق بنا أن نُفضل جلادًا على جلادٍ آخر… إننا بالأحرى نحتاج أن نتموقع حيث ينبغي للضمير أن يقف: في صف الإنسان، أيًّا كان موقعه، وضد الطغيان، مهما تلون.

وختامًا، ليس من الحكمة أن نُقارن القتلة ببعضهم، وليس من النضج السياسي أن نُفاضِل بين الدماء. فالشر لا يُقارن، بل يُدان.

والتاريخ لا يرحم من سوّى بين الجلاد وقرينه، واعتبر أقلّهما بطشًا أكثرهم رحمة.وفي نهاية المطاف، لا يُصنع السلام بتفضيل شيطان على آخر، بل بإحياء الضمير، وتثبيت البوصلة الأخلاقية في عالم يميل فيه كل شيء إلى أن يصير رمادًا تذروه الرياح.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button