
د. مَهدي عامري – أستاذ الذكاء الاصطناعي بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط
استغربتُ أن يخرج وزير التعليم العالي المغربي السيد عز الدين ميداوي بقرارٍ يدعو فيه إلى تقليص أطروحة الدكتوراه إلى ستين صفحة فقط، معتبراً أن هذا الإجراء قادر على مواجهة “سرقات الذكاء الاصطناعي”. هذا المنطق، في تقديري، يُعبّر عن رؤية إصلاحية تركز على الشكل وتغفل الجوهر، وعلى الكم وتتناسى الكيف. فهل يُعقل أن نواجه ظاهرة معرفية عالمية، بحجم تحولات الذكاء الاصطناعي، بإصلاح إداري شكلي لا يمس بنية البحث العلمي ولا وظائف الجامعة؟ محمد عابد الجابري كان يقول إن أي إصلاح لا يستند إلى “العقلانية النقدية” يتحوّل إلى مجرد تكرار للأوهام القديمة في لباس جديد.
ولذلك أرى أن قرار الوزير، رغم النوايا الحسنة، يعكس فهماً قاصراً لطبيعة الأزمة: فالمشكل ليس في عدد صفحات الأطروحة، بل في غياب منظومة بحثية حقيقية قادرة على إنتاج المعرفة، وتأطير الطلبة، وتحقيق التراكم العلمي.
هناك فرق شاسع بين مواجهة الانحرافات الأخلاقية في البحث، وبين تضييق مساحة الاجتهاد بدعوى محاربة الذكاء الاصطناعي. فهذا الأخير ليس شبحاً يُطارد الجامعة، بل أداة معرفية ينبغي استيعابها وتأهيل الباحثين لاستخدامها بشكل مسؤول. أما تحويله إلى “عدو خارجي” يبرر الإجراءات السهلة، فهو تعبير عن خوف غير مبرَّر من المستقبل. إنّ اختزال أطروحة الدكتوراه في ستين صفحة، والتركيز على ثلاث مقالات علمية فقط، يعكس – في رأيي – تصوراً بيروقراطياً للبحث العلمي، لا يتماشى مع الحاجة إلى بناء ثقافة نقدية لدى الباحثين، تلك الثقافة أركز على أهميتها القصوى، من موقعي كاستاذ باحث لازيد من 15 سنة في مجال التواصل و كخبير في الذكاء الاصطناعيو و أعتبرها شرطا أساسيا للنهضة الفكرية.
أعتقدُ أن القرار غير متوافق مع حجم التحديات التي تواجه الجامعة المغربية للأسباب الثلاثة التالية :
. أولاً: إنّ اختزال الأطروحة في 60 صفحة يُضعف فعلاً من قدرات الباحثين على بناء مشروع معرفي متكامل. فالدكتوراه ليست “مقالاً طويلاً”، بل هي تمرين على التفكير العميق، وتحليل المناهج، وتأويل النتائج، و خلق معرفة مركبة متعددة الابعاد،
. ثانياً: إنّ ربط مشكلة السرقات العلمية بالذكاء الاصطناعي فقط هو تقدير غير دقيق، فالمشكل الحقيقي يكمن في سوء التأطير، وضعف تكوين الطلبة في أخلاقيات البحث، وغياب منظومات رقابية فعالة داخل الجامعات. لذا، كان الأحرى بالوزارة أن تستثمر في المختبرات الرقمية، وبرمجيات كشف الانتحال، وتكوين الأساتذة والطلبة في كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول. أما إلقاء اللوم على التكنولوجيا، فهو أقرب إلى “التهرب من مواجهة الأسباب البنيوية”،
. ثالثاً: إنّ تحويل الأطروحة إلى “مقالات منشورة” قد يُعمّق الفوارق بين الباحثين، لأن النشر في مجلات محكمة يتطلب شبكات و لغات، و تكويناً خاصاً، ووقتاً طويلاً. في حين أن أغلب طلبة الدكتوراه في المغرب لا يملكون شروط المنافسة الدولية. وبالتالي فإن القرار، بدل أن يرفع من جودة البحث، قد يدفع طلبة كثيرين نحو الاستسلام أو البحث عن طرق التفافية. و بالتالي، فإن الإصلاح الحقيقي لا يكون بتشديد المتطلبات الشكلية، بل بتوفير بنية جامعية عادلة، مهيأة، وقادرة على مواكبة التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي.
ختاماً، يظهر أن القرار، رغم ما يحمله من نوايا تنظيمية، لا يُلامس جوهر أزمة الجامعة المغربية.لماذا ؟ لأن الإصلاح لا يكون بتقييد عدد الصفحات، بل بتحديد الأسئلة الكبرى التي يجب أن يجيب عنها التعليم العالي: ما هي وظيفة الجامعة اليوم؟ كيف نؤهل الباحثين ليكونوا فاعلين في عصر الذكاء الاصطناعي وليس ضحاياه؟ وكيف نضمن تراكم المعرفة بدل إعادة إنتاج الارتباك؟ .
و انطلاقا من هذه الأسئلة الحاسمة نرى أن الوقت حان لإعادة بناء العقل المغربي من الداخل، لأن الإصلاح يبدأ من تصحيح آليات التفكير، لا من ضبط المقاس الورقي للأطروحات. ولذلك أرى أيضا أنّ هذا القرار، بدلاً من أن يفتح الباب أمام إصلاح حقيقي ننتظره منذ أمد بعيد، قد يُعيد إنتاج الأزمة نفسها، ولكن بلباس جديد،
فمستقبل الجامعة يمر عبر بناء القدرات، و تحديث المناهج، و إعادة الاعتبار للبحث الميداني، و الاستثمار في المختبرات، وتشجيع حرية التفكير. أمّا الإجراءات التقنية، فهي ستظل بلا أثر ما لم تُبْنَ على رؤية معرفية قوية.
و في هذا السياق، يمكن أن نضيف أن الذكاء الاصطناعي، مهما تطوّر، لن يعوّض دور العقل النقدي الذي يطرح الأسئلة قبل أن يصدر القرارات، ويبحث عن الحلول الجذرية بدل الاكتفاء بالمعالجات السطحية.
لهذا أكتب اليوم لأقول: إنّ مشكل الجامعة ليس في عدد صفحات الأطروحات، بل في قرارات الإصلاح الجوهري المؤجل منذ سنوات، لأن الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى الشجاعة الفكرية، وإلى رؤية استراتيجية بعيدة عن الخوف و منفتحة على المستقبل.



