أخبارالرئيسيةفي الصميم

أسعد الأمم

هذه حكاية بلا بداية ولا نهاية، ربما لأن الظلم على وجه الأرض أقدم من تاريخ قتل قابيل لأخيه هابيل. تعال معي، انصت جيدًا، ولا تندهش إن وجدت نفسك تبكي دون أن تعرف السبب. كنت هناك في المقهى المطلّ على البحر حين رأيته يأتي، أو ربما كان يسكنني منذ زمن بعيد. كان اسمه مراد، وهل هناك اسم أنسب لمن يبحث عن المعنى؟ عيناه تشبهان الأسئلة التي لا يجيب عنها أحد.

جلس صامتًا، و كان البحر من ورائنا يتثاءب كشيخ تعب من تعاقب المآسي. قال لي بصوتٍ خافت: “ألا ترى، يا عمّي، أن الجيل فقد البوصلة؟” ابتسمتُ لكن قلبي نزف من البكاء، لم أعط رأيي الصريح فورًا لأن ذلك في بلادي يساوي جريمة، ولأن الكلام صار يحتاج إلى تصريح. قلت له أخيرًا: “بل نحن من بعنا البوصلة يا مراد، نحن الذين صنعنا الخوف بأيدينا، وعلّمنا أولادنا أن يبتسموا للظلم كأنه قدر.”

بقلم/ د. مهدي عامري

ظلّ مراد ينظر إليّ كما ينظر جيل بأكمله إلى ماضيه، يبحث عن جوابٍ في عيونٍ أنهكها اليأس. قلت له: “الجيل ليس هوية جامدة، بل طاقة أخلاقية. لا تقل جيل الشباب او المراهقين او الأقل تجربة في معترك الحياة..قل جيل الباحثين عن الكرامة. هؤلاء الشباب لم يولدوا غاضبين، بل في وطنٍ خاف من الحقيقة. إنهم مرآتنا، نراهم فنغضب، لا لأنهم مخطئون، بل لأنهم صادقون.”

كان البحر يصغي إلينا، وكانت المدينة من خلفنا تبتلع آخر ضوء لها. و استرسل مراد : ” إنهم يتهموننا بالفوضى والعدمية والعمالة.” فأجبته: “وهل هناك تهمة أشد من أن تُتّهم لأنك حيّ؟ يا بني، حين يصير التفكير خطراً، يصبح الصمت جريمة.”

في المساء سار الشيخ و مراد معًا بين أزقة المدينة القديمة. كانت الجدران مدهونة بألوان جديدة لكن الوجوه ظلت باهتة كصفحات اخترقتها الخطوط لكن نُسيت فيها المعاني. كان مراد يحدّق في اللافتات الحكومية التي تعلن عن المشاريع الضخمة: طرق جديدة، ملاعب فاخرة، موانئ عملاقة.

قال بتهكّم مرّ: “إنهم يبنون الملاعب قبل أن يبنوا الإنسان، يلمّعون الواجهة ويتركون القلب يتعفّن.” هزّ الشيخ رأسه وقال كأنه يحدّث نفسه: “بناء الإنسان قبل بناء الملاعب، والاستثمار في بني آدم قبل الاستثمار في كرة القدم، يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، متى يُكرَّم العالم والأستاذ والمفكر قبل أن يُبجَّل المغني و اللاعب ؟ كدنا نفقد الأمل”.

ضحك مراد بمرارة وقال: “حتى في النشرات الإخبارية يخصصون الجزء الأعظم للرياضة و الترفيه ويضعون الأهم في أسفل سافلين.” فابتسم الشيخ وقال: ” انه زمن البؤس بلا شك، انه زمن يقاس فيه المجد بعدد الأهداف، و يصبح فيه الفيلسوف مجرد متفرج في مدرجٍ خالٍ من الوعي.”

و اخيرا، وصل الاثنان إلى ساحة تملؤها لافتات كتب عليها بالخط العريض: مهرجان الفخر الوطني – تكريم أبطال الرياضة. نظر مراد إلى الشيخ وقال: “أيعقل أن نكرّم من يركل الكرة ونتجاهل من يعلّمنا كيف نفكر؟” فردّ الشيخ: “حين تنقلب الموازين يصبح الصمت عبادة، لكن الله لا يرضى بالظلم يا بني.” سار الشيخ ومراد بين الحشود التي تهتف بأصواتٍ متشابهة، والمدينة تضحك من فرط وجعها. كل شيء في البلاد يلمع: الأرصفة والموانئ والمطارات، إلا وجوه الناس التي يخنقها البؤس و العوز.

قال الشيخ في نفسه: “الغلاء المستمر ينخر الجيوب، والدعم الاجتماعي صار تثبيتاً للفقر لا تجاوزاً له، المواطن يعيش منطق البقاء لا الكرامة، والفساد لم يعد انحرافاً بل أسلوب حياة، من القمة إلى القاعدة، من المؤسسات إلى السلوك اليومي. رأيت بعيني بلدا يسير بسرعتين و مواطنين يتعايشان في رقعة واحدة: مساحة للنخب المترفة، و أخرى للناس الذين يلهثون وراء فتات الكرامة.”

و بعد يومين اجتمعت الحشود في الساحة نفسها محتفلة بفوز المنتخب. و طفق الناس يلوّحون بالأعلام، و يهتفون بحماسة، بينما كان مراد يقف بينهم يحمل لافتة صغيرة كتب عليها: ” يا عباد الله، المستشفيات أولا!… ابنوا المدارس قبل الملاعب.” سخر منه البعض، وطلب منه أحد رجال الأمن ألا “يفسد فرحة الناس”. و لحظتذاك اقترب الشيخ بخطوات بطيئة وقال: “اتركوه، فربما كان أكثر حباً لهذا الوطن منّا جميعاً.” لكن صوته ضاع و تبخر وسط ضجيج المفرقعات وأناشيد الانتصار.

و مرت ساعة و ربما ساعتان، و تقدّم مراد نحو المنصة محاولاً إيصال صوته، لكن أحد الحراس دفعه بقوة فسقط أرضاً، وانكسر هاتفه وتناثر حلمه الصغير على الإسفلت. و اقترب منه الشيخ ورفع رأسه بين ذراعيه، فابتسم مراد ابتسامة واهية وقال: “قل لهم يا عمّي إن الوطن لا يُبنى بالتصفيق.” ثم أسبل جفنيه بهدوء. هل مات؟؟ و ساد الصمت وانطفأت الأضواء، وفي اليوم الموالي كتبت الصحف: شاب مجهول يُغمى عليه و يدخل في غيبوبة أثناء الاحتفالات. أما الشيخ فكتب في دفتره: “ما زال مراد حيا لكن لا احد يستمع إليه. إذا، هو في عداد الاموات. كم مرة حاولت أن تذكّرهم يا مراد بأن ابن آدم أثمن من كرة القدم ؟ .”

و لكن هل ينفع الجواب او السؤال أصلا في أسعد بلد في العالم؟

ولم يركن الشيخ لليأس، و جلس قرب البحر كما يفعل كل صباح، وألقى نظره الى الأفق البعيد حيث يعانق الموج المجهول، وقال بصوت متهدّج: “ها هو البحر يغسل وجوهنا من النفاق لكنه لا يغسل قلوبنا من الخوف.” ثم تلا مرثية للوطن مقتبسا من كتاب الله عز و جل :

﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال – 25)

وبين هدير الموج وصمت العالم المطبق، خُيّل لمن رآه من بعيد أنه يتحدث إلى قوة غامضة غير مرئية، وأن البحر نفسه ينتحب معه. و كتب الشيخ آخر سطر في دفتره: ” أيها الإنسان أنت لم تمت ، أنت استُشهدت في معركة بناء الوطن.” ثم رفع رأسه نحو البحر وقال: “لكنها ليست الخاتمة، ربما هو أفول للشر و صعود لقوى الخير، الله وحده يعلم.. نعم المولى و نعم النصير..

و بعد دقيقتين همس الشيخ للبحر : ” هذه حكاية بلا بداية ولا نهاية، لأن الظلم حين يبدأ لا يعرف كيف يتوقف، ولأن الأمل رغم كل شيء لا يموت، بل ينام تحت الركام منتظرا مراداً جديداً و حلما آخر يبزغ بين الظلمات مثل خيوط الفجر.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button