أخبارالرئيسيةرياضة

هل تتجاوز الصين الولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي؟

بقلم: د. مهدي عامري-أستاذ الذكاء الاصطناعي والتواصل السياسي، المعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط،

لا شكّ أن العالم يعيش اليوم واحدة من أكثر لحظاته تحولًا منذ نهاية الحرب الباردة، إنها لحظة تتداخل فيها الهندسة الجيوسياسية مع الاقتصاد الرقمي، وتتفاعل فيها ثورة الذكاء الاصطناعي مع سؤال الحضارة، ليبدو المستقبل مائلاً — لأول مرة منذ قرنين — نحو الشرق لا الغرب. فعندما نُمعن النظر في مسار الذكاء الاصطناعي خلال العقد الأخير، تظهر الصين كقوة صاعدة ليس فقط لأنها تملك الموارد البشرية والمادية، بل لأنها تقترح نموذجًا حضاريًا جديدًا يقوم على الانضباط الاجتماعي، والانسجام الثقافي، والتخطيط طويل المدى، وتوحيد القرار الاستراتيجي.

ولعلّ السبب الأول الذي يجعل الصين مرشحة لتجاوز الولايات المتحدة في أفق السنوات القادمة هو الانضباط السلوكي والثقافي العميق الذي يشكل لبّ البنية الحضارية الصينية. فالصين ليست مجرد دولة عملاقة؛ إنها مرآة لممارسة يومية لفلسفة تعود إلى آلاف السنين وتُقدّم قيمة “النظام” باعتباره شرطًا للارتقاء، و”الانسجام” بصفته أساس العمران، و”العمل الدؤوب” كطريق وحيد للصعود. لقد كانت هذه الروح — روح كونفوشيوس التي تشربها المجتمع — هي التي جعلت الصين تقفز من بلد زراعي فقير في سبعينيات القرن الماضي إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

وفي مجال الذكاء الاصطناعي، يتجلى أثر هذا الانضباط في قدرة الصين على تنفيذ سياسات وطنية ضخمة، مثل “خطة الذكاء الاصطناعي 2030″، التي تتضمن أهدافًا واضحة لتجاوز الولايات المتحدة، ليس فقط في البحث العلمي، بل في التطبيقات الصناعية، والبنى التحتية الحاسوبية، والروبوتات، والحوسبة الفائقة. وتشير الإحصاءات إلى أن الصين تنتج اليوم أكثر من 29٪ من الأبحاث العالمية في الذكاء الاصطناعي، وأنها سجّلت خلال السنوات الخمس الماضية ما يقارب 60٪ من مجموع براءات الاختراع المرتبطة بالخوارزميات. كما تُعدّ أكبر سوق للبيانات في العالم، إذ يتجاوز حجم بيانات مستخدمي الإنترنت لديها ثلاثة أضعاف ما تنتجه الولايات المتحدة، وهو فارق ضخم يجعل نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية تتطور بسرعة تفوق نظيراتها الغربية. وفي هذا السياق، يتحول الانضباط الثقافي إلى طاقة إنتاجية، ويتحول الانسجام الاجتماعي إلى معامل تسريع، ويتحول التخطيط المركزي إلى أداة لإنتاج المستقبل لا لإعادة إنتاج الماضي.

وهكذا يصبح السبب الأول، أي تشبع المجتمع الصيني بفلسفة النظام والعمل، شرطًا جوهريًا لتقدم الصين في هذا السباق العالمي. أمّا السبب الثاني، فهو التعداد السكاني الهائل الذي يضع الصين في مرتبة لا ينافسها فيها أحد؛ فنحن نتحدث عن أكبر مختبر بشري للبيانات على وجه الأرض، إنه مختبر يضم أكثر من 1.4 مليار إنسان يساهمون كل يوم في صنع أكبر منجم للبيانات في التاريخ. ومن المؤكد أن هذه الكتلة البشرية ليست رقمًا سكانيًا فقط، بل هي مادة خام لاقتصاد الذكاء الاصطناعي، حيث تصبح كل حركة وسلوك وتفاعل مكوّنًا في تدريب النماذج وتحسين قدراتها. وتقدّر مراكز الأبحاث أن حجم البيانات الصينية سيصل سنة 2030 إلى ما يعادل 35٪ من مجموع بيانات العالم، وهو رقم كافٍ وحده ليعطي للصين أسبقية استراتيجية في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي ذات الاستقلالية العالية.

ومع كل ذلك، يبقى من الضروري الإشارة — بموضوعية أكاديمية — إلى أن الولايات المتحدة ما تزال تحتفظ بتفوق نوعي مهم في مجالات أساسية مثل الشرائح المتقدمة (NVIDIA) والتصميمات الحاسوبية، إضافة إلى ريادتها في بعض النماذج اللغوية العملاقة. كما تواجه الصين بعض القيود، مثل الاعتماد الجزئي على مورّدين خارجيين في إنتاج الرقائق عالية الدقة، وهو تحدّ تعمل بكثافة على تجاوزه.

وهكذا يتشكل المشهد: مجتمع منضبط، كتلة بشرية ضخمة، وتخطيط استراتيجي طويل المدى، يجعل كل مؤشر يشير إلى انتقال مركز الثقل في التكنولوجيا من الغرب إلى الشرق. هذه الحقيقة لا جدال فيها: فنحن نعيش اليوم مرحلة تغيّر أقطاب الحضارة، إنها حقبة تشبه إلى حد بعيد التحولات الكبرى التي عرفها التاريخ عندما انتقلت القيادة من الإغريق إلى الرومان، ومن العالم الإسلامي إلى أوروبا، ومن أوروبا إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الفارق اليوم أن التحول لا يأتي من التراكم العسكري أو التوسع الجغرافي، بل من قوة المعرفة الرقمية، ومن قدرة الأمم على التحكم في الخوارزميات، والبيانات، والحوسبة الكمية، وشبكات السوبر كومبيوتر.

وفي هذا المجال، تبرز الصين ليس باعتبارها قوة صاعدة فقط، بل بصفتها حاملًا حضاريًا جديدًا. فالسبب الثالث لتجاوزها المحتمل للولايات المتحدة هو أن العالم يشهد تحولًا جذريًا في مركز الحضارة من الغرب إلى الشرق، وهو لم يعد مرتبطًا فقط بالتجارة والصناعة، بل بمن يمتلك البنية التحتية للمستقبل: الذكاء الاصطناعي. وهنا، يلاحظ معظم الخبراء أن الولايات المتحدة، رغم تفوقها البحثي الحالي واحتضانها للشركات الكبرى مثل OpenAI وGoogle وMeta، تعاني من تفكك اجتماعي، وانقسام سياسي، وتباطؤ في القدرة على إصدار تشريعات متماسكة، إضافة إلى ضعف التعليم في بعض المناطق، وتراجع التجانس الثقافي الذي كان في السابق مصدرًا للقوة. وعلى النقيض، تقدم الصين صورة مجتمع شديد الانسجام، قادر على توجيه طاقته نحو مشروع وطني واحد: و هو أن تصبح القوة الأولى في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. وفي هذا السياق، ضخت الدولة الصينية أكثر من 150 مليار دولار خلال السنوات الأخيرة في مشاريع الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تمويل ضخم للشركات الناشئة، وبناء مدن ذكية كاملة تعتمد على الذكاء الاصطناعي في المرور، والطاقة، والصحة، والإدارة.

وهكذا نصل إلى السبب الرابع: زمن أفول الغرب واحتياج العالم إلى نموذج حضاري جديد، وربما يكون هذا النموذج هو الصين. فالمجتمعات الغربية — رغم تقدمها العلمي — تعيش اليوم حالة تشبه إرهاق الحضارات، حيث بلغت الرأسمالية مستويات من التشبع يصعب تجاوزها دون اضطرابات. وفي المقابل، تأتي الصين بنموذج جمع بين اقتصاد السوق والانضباط الحكومي، بين الابتكار والسلطة، وبين الانفتاح التكنولوجي والحفاظ على الهوية الحضارية. ويصف بعض الخبراء هذا النموذج بأنه «الرأسمالية المنضبطة»، وهو نموذج يتيح للذكاء الاصطناعي أن ينمو في بيئة أقل فوضى وأكثر تخطيطًا. وتشير المؤشرات الاقتصادية إلى أن سوق الذكاء الاصطناعي الصيني سيصل سنة 2030 إلى 1.2 تريليون دولار، مقابل أقل من 800 مليار دولار في الولايات المتحدة، مع توسع كبير في القطاعات التطبيقية مثل التصنيع الذكي، والمركبات الذاتية القيادة، والطب التنبؤي، وإدارة المدن. وفي مجال الحوسبة، تقترب الصين اليوم من بناء أقوى منظومات السوبر كومبيوتر في العالم، وتمتلك خوارزميات منافسة في مجالات الرؤية الحاسوبية والترجمة الآلية والنماذج اللغوية العملاقة. ومع كل هذا، يصبح انتقال مركز الثقل الحضاري نحو الشرق نتيجة طبيعية لتحول القوة الرقمية.

ختامًا، فإن محاولة فهم مستقبل القوة العالمية دون إدراج الذكاء الاصطناعي ضمن المعادلة تبدو قراءة ناقصة. فمعيار القوة في القرن الحادي والعشرين لم يعد الجغرافيا ولا الجيوش ولا الفائض الصناعي، بل امتلاك القدرة على إنتاج الخوارزميات والتحكم في تدفقات البيانات. ومن هذا المنظور، تبدو الصين مقتربة من لحظة فارقة ستمنحها موقع القيادة العالمية.

وانطلاقًا من هذا فإن الأسباب الأربعة التي بُني عليها هذا التحليل — الانضباط الثقافي المتجذر، التعداد البشري الضخم، انتقال مركز الحضارة نحو الشرق، وزمن أفول الغرب — تشكل مجتمعة بنية تفسيرية لفهم ميل المستقبل في اتجاه الصين. لكن الأمر لا يتعلق فقط بالمؤشرات الاقتصادية، بل بما يمكن تسميته اقتصاد الذكاء الاصطناعي، أي الاقتصاد الذي يقوم على إعادة تعريف العمل، والإنتاج، والسرعة، والفائض، والقيمة. ففي الصين، لا ينمو الذكاء الاصطناعي كقطاع منفصل، بل كطبقة سميكة تخترق كل القطاعات: من الزراعة الدقيقة إلى الصناعة الثقيلة، ومن التعليم إلى الأمن السيبراني، ومن الطاقة إلى الاقتصاد الأخضر. وهذا ما يجعل الصين أقرب إلى امتلاك «نظام بيئي رقمي متكامل»، في حين تبدو الولايات المتحدة أكثر اعتمادًا على القطاع الخاص الذي يتحرك أحيانًا بصورة متناقضة مع توجهات الدولة.

وتتوقع مراكز الدراسات أن تسهم تقنيات الذكاء الاصطناعي الصينية بما يعادل 7 تريليونات دولار في الناتج العالمي سنة 2035، وأن تتحول المدن الصينية — مثل شنزن وشنغهاي وهانغتشو — إلى مختبرات عملاقة لتطبيقات المستقبل. أمّا على المستوى الثقافي، فإن الصين تتقدم لأن مجتمعها يؤمن بفكرة المشروع المشترك، بينما تعيش المجتمعات الغربية اليوم انفصالًا بين الأفراد والدولة. ولهذا يتحول الذكاء الاصطناعي في الصين إلى مشروع حضاري، لا مجرد مشروع اقتصادي.

إن السؤال الحقيقي لم يعد: هل ستتجاوز الصين الولايات المتحدة؟ بل هو الآتي: متى ستحدث لحظة التجاوز، وبأي صيغة، وعلى أي مستوى من مستويات الذكاء الاصطناعي؟ وإلى جانب هذا، يطرح المستقبل سؤالين أكثر عمقًا: هل سيؤدي صعود الصين إلى إعادة تشكيل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي عالميًا؟ وهل نحن على أبواب ميلاد «نظام عالمي خوارزمي» جديد يعيد تعريف السيادة؟ وما الذي ينبغي على بقية العالم — خاصة الدول الصاعدة — أن تفعله لتستفيد من هذا التحول بدل أن تكون مجرّد متفرج؟

إن استشراف المستقبل يُظهر أن العالم يدخل حقبة جديدة تتغير فيها قواعد اللعبة. ومن لا يمتلك الذكاء الاصطناعي — تقنيًا، اقتصاديًا وحضاريًا — لن يملك مكانًا يليق به في خريطة القرن الجديد. والصين، بكل مؤشرات القوة الناعمة والصلبة، تبدو اليوم أقرب إلى قيادة هذا التحول. لكن المستقبل — بطبيعته — لا يعترف بالمسلمات، بل بالاستعداد. وهنا يبدأ سؤال الشعوب: كيف نتهيأ لزمن تصبح فيه الخوارزميات هي معيار السيادة، ويصبح الذكاء الاصطناعي هو أساس القوة؟ وهل نحن قادرون على إعادة بناء علاقتنا بالعلم والمعرفة كي لا نفقد ما تبقى من موقعنا في هذا العالم المتسارع؟

هكذا إذن يفتح الذكاء الاصطناعي الباب أمام عصر جديد، قد يكون عصر الصين، لكنه يظل — في عمقه — عصر الإنسانية التي تبحث من جديد عن معنى القوة، وجدوى الحضارة، وموقع الإنسان في عالم تصنعه الآلات وتعيد تشكيل حدوده جيوش الخوارزميات

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button