
كتب / أحمد أكلكيم
يعيش المشهد الإعلامي المغربي منذ أسابيع على وقْع نقاش محتدم أعاد طرح سؤال جوهري: ما طبيعة الصراع القائم اليوم داخل الحقل الإعلامي؟ وهل يتعلق الأمر بتوتر عابر، أم بتحول بنيوي يغيّر قواعد اللعبة بين الصحافي المهني واليوتيوبر الفاعل في اقتصاد المنصات؟
ما ظهر في الواجهة خلال الأيام الماضية يبدو أقرب إلى صراع رمزي بين منظومتين مختلفتين ،منظومة الصحافة المهنية التي تستند إلى الشرعية القانونية، والالتزام الأخلاقي، وآليات التحقق والتدقيق، ومنظومة المحتوى الرقمي التي يشتغل داخلها اليوتيوبر بمنطق الجذب والانتشار والربح، وفق خوارزميات تُفضّل الإثارة على الجودة، وتكافئ السرعة أكثر مما تكافئ المسؤولية.
الشرارة انطلقت مع تسريبات منسوبة إلى لجنة أخلاقيات المهنة بالمجلس الوطني للصحافة، تتعلق بإجراءات قد تطال أحد اليوتيوبر/الصحافيين بسبب تقديمه مضامين “إخبارية” على قناته باليوتيوب. لكن هذه الواقعة لم تبق في حدودها المهنية، بل تحولت إلى كرة ثلج اجتاحت المنصات، وامتدت إلى قطاع المحاماة، وأعادت إحياء نقاشات قديمة حول الحدود الفاصلة بين الممارسة الصحافية وصناعة المحتوى.
في خضم هذا الجدل، تداولت جهات صحفية أخباراً مفادها أن وزارتَي الثقافة والشباب والتواصل والعدل تعملان على إعداد مشروع قانون جديد يؤطر العلاقة بين الصحافي واليوتيوبر. خطوة تُفهم ضمن محاولة رسم قواعد واضحة داخل فضاء رقمي بات يخلط الأدوار، ويعيد توزيع السلطة الرمزية بين الفاعلين، ويثير أسئلة حرية التعبير والمسؤولية والمنافسة العادلة.
من منظور سوسيو–إعلامي، لا يمكن فصل ما يجري عن التحولات العميقة التي فرضها التحول الرقمي. فاليوتيوبر لم يعد مجرد هاوٍ يصور يومياته، بل أصبح صانعاً للرأي العام، ومؤثراً في اتجاهات التلقي، وفاعلاً اقتصادياً داخل منظومة “التراند” والإعلانات. وفي الوقت نفسه، تواجه الصحافة المهنية أزمة ثقة، وتراجعاً في جمهورها، وانقسامات داخلية تُضعف قدرتها على الدفاع عن دورها المجتمعي.
في هذا السياق المعقّد، تتداخل مصالح جهات متعددة منها منصات التواصل التي تستفيد من ارتفاع نسب المشاهدة بغض النظر عن جودة المحتوى و فاعلون سياسيون يجدون في المحتوى غير المؤطر مجالاً واسعاً للتأثير إلى جانب أطراف اقتصادية تربح من الإعلانات و”التراند و جمهور سريع الاستهلاك يفضل السهل والسريع على المحتوى الرصين.
و في مقابل هذه المصالح المتداخلة نجد جسم صحافي مهني يعاني من هشاشة التنظيم الذاتي وتراجع القدرة على التجديد لذلك، لا يمكن اختزال النقاش في مواجهة ثنائية بين “الصحافي” و”اليوتيوبر”. المسألة أعمق وأبعد من أشخاص أو وقائع ظرفية.
نحن ، مما لا شك فيه ،أمام تحوّل في بنية الحقل الإعلامي المغربي، هذا التحول الذي يستدعي نقاشاً هادئاً حول إعادة تعريف الحدود المهنية، وإرساء قواعد تضمن التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية المجتمعية، وبين حق كل فاعل في الوجود وبين حماية الفضاء العام من الفوضى المعلوماتية.
وإذا صحّ أن مشروع قانون جديد في طور الإعداد، فإن الرهان ليس تنظيم العلاقة بين فئتين فقط، بل حماية المهنة، وصون حق الجمهور في معلومة موثوقة، وضبط مجال رقمي الذي يزداد تأثيره يوماً بعد يوم. فعندما تُهمَّش الصحافة المهنية، لا يربح اليوتيوبر وحده… بل يخسر المجتمع إحدى أدواته الأساسية لفهم الواقع.



