Hot eventsأخبارأخبار سريعةثقافة و فنعين العقل

ذكريات من الزمن الجميل

بقلم الاستاذ: مولاي الحسن بنسيدي علي

كنا، حين كنا صغارًا، نركض في ساحات الطفولة كأن الأرض لا تُمسّ، نتراشق بالماء ونلهث خلف ضحكاتنا التي كانت تسبق خطانا. كان عنفنا عنفًا بريئًا، يُشبه قسوة الندى على أوراق الفجر، نتصارع لحظة ونضحك بعدها، ونعانق بعضنا كأننا نخشى أن نهزم الروح التي تجمعنا. كنا إذا فرح أحدنا بادرنا جميعًا إلى الفرح، وإذا ألمّ بأحدنا وجعٌ، شعرنا كأن الألم قد قُسِّم بالتساوي على قلوبنا الصغيرة، فنحاول تضميده بما نملك من دفء ومواساة.
كان يجمعنا بيت العائلة، ذاك البيت الصغير الذي اتسع بقدر ما اتسعت المحبة في زواياه. فيه أب عطوف، وأم حنون، وأخ أكبر يقف مقام الأب حين يغيب، وأخ أصغر لا ينام إلا بعد أن أقصّ عليه أحجية من تلك الحكايات التي كانت تنسج حوله طمأنينة الطفولة. وهناك ابن الأخت، اللطيف الذي يفتح بابتسامته بابًا من نور لا ينطفئ. وأختان كريمتان تحملان عن الأم عبءَ البيت وقلبها. كان البيت، رغم ضيقه، يفيض بالألفة، خصوصًا حين تجتمع الخالات والجد والجدة، فيفيض المكان برائحة الزمن الجميل.


وكان أخي محمد، الذي لم يكن يفصل بيني وبينه سوى ثلاث سنوات، يبدو كأنه توأم قلبي قبل أن يكون توأم عمري. قوي الجسم، مرح الروح، عاشق للغناء والرقص والإيقاع. محبوب بين الجميع، كريم بطبعه، يجود حتى بلقمة رغيفه دون تردد. لم يكن أحد يجرؤ على مصارعته… إلا أنا. فقد كنت أعلمه ما تعلمته من أخي الأكبر في رياضة الجيدو، وكان يقبل ذلك بضحكة لا تفارقه.


كبرنا… وشق كلٌّ منا طريقه. هو ظلّ يحلم بفرنسا، تلك البلاد التي كنا نسمّيها — ونحن صغار — بلاد الجن والملائكة، بينما اخترتُ أنا طريق القانون، ولجتُ كلية الحقوق، وما إن ارتديتُ بدلة المحاماة حتى وجدته بجانبي، مبتسمًا كعادته، يفتح ذراعيه، ويمازحني:
“أصبح المصفار محاميًا!”
وانفجر من حولنا ضحك محبّ، ثم دعاني إلى زيارة جامعة السوربون، ودسّ في جيبي مبلغًا من المال، كعادته التي لا تتبدل: كرم لا يضاهيه كرم.
ومضت السنون مسرعة، وكلٌّ منا أصبح أبًا وجَدًّا، يلتف حوله أحفاده كأغصان صغيرة تستظل بجذور عتيقة. تغيّر مساري، وانخرطت في سلك المتصرفين إلى أن جاء وقت التقاعد. وحين وهن العظم واشتعل الرأس شيبًا، راودني حلم متابعة الدراسة لنيل الماجستير والدكتوراه.
وككل مراحل حياتي… كان محمد هناك، يستقبل حلمي وكأنه حلمه، يدعمني ماديًا ومعنويًا، يسأل عن حالي كل صباح، ويرسل إليّ هدية اليوم: دعاء صافٍ يفتح القلب على التفاؤل.
وحين نتذكر الوالد والوالدة والأخ الأكبر والأخ الأصغر وابن الأخت والخالات الذين سبقونا إلى رحمة الله، تنحدر من عيوننا دموع حارقة، كأن الماضي يطرق باب القلب ليستعيد أحجاره الأولى. فأردد معه:
“اللهم ارحم من رحلوا، وبارك فيمن بقي، واجعل لنا خاتمة خير.”
رويت هذه السيرة… لا لأحكي ماضياً فقط، بل لأمسح دمعتي التي تأبى أن تجف، وأحيي في قلبي صوت تلك الأيام التي ما زالت — رغم رحيلها — تنبض حياة.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button