المغرب و الذكاء الاصطناعي : فرصة ضائعة أم بداية النهضة الاقتصادية؟

بقلم: د. مهدي عامريخبير و أستاذ الذكاء الاصطناعي و التواصل السياسي، المعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط
يبدو أن المغرب يقف اليوم أمام مفترق طرق استراتيجي نادر في تاريخه الحديث، تتقاطع عنده التحولات التكنولوجية العميقة مع الطفرات الجيوسياسية العالمية، في خضم تصارع الدول الكبرى على السيطرة على اقتصاد البيانات والخوارزميات.
و رغم أن الذكاء الاصطناعي ظهر كمجال بحثي منذ خمسينيات القرن الماضي، فإن سرعة نموه اللامحدودة بعد 2020 جعلت العديد من الدول، عبر العالم، تعيد صياغة نماذجها الاقتصادية و حوكمتها الرقمية إضافة الى بنى التعليم والبحث العلمي الخاصة بها.
إن هذا الانفجار لم يكن ثمرة تطور تقني خالص، بل هو نتاج لتحوّل حضاري يعيد تشكيل العلاقات بين الدولة والمجتمع والشركات، ويطرح سؤالًا وجوديًا في منتهى الأهمية: هل نحن مستعدون للانتقال من اقتصاد الريع إلى اقتصاد جديد قائم على المعرفة الخوارزمية ؟من الملاحظ أن دولًا، خارج نطاق الدل العظمى، مثل الإمارات و السعودية و سنغافورة و كوريا الجنوبية، ورواندا، قد فهمت باكرًا أن الذكاء الاصطناعي ليس رفاهًا تكنولوجيًا، بل بنية تحتية سيادية تضمن لها مكانًا و تموقعا متميزا في اقتصاد القرن الحادي والعشرين.
و تشير التقارير الدولية إلى أن الذكاء الاصطناعي قادر على إضافة أكثر من 15.7 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول سنة 2030، منها حوالي 1.2 تريليون دولار في منطقة الشرق الأوسط وحدها، أي ما يعادل اقتصادات دول بأكملها قبل عقد من الآن.
وفي المغرب، تتوقع تقارير البنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي أن الرقمنة يمكن أن ترفع الناتج الداخلي الخام بما يناهز 3% الى 5% سنويًا إذا ما تم تسريع الإصلاحات وتبني استراتيجيات واضحة. لكن السؤال الجوهري الذي يطرح هو التالي : هل نملك حقًا استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي أم أننا نعيش ردود أفعال متفرقة وغير متناسقة؟ربما ما يثير الانتباه هو أن المغرب، رغم توفره على رأسمال بشري مهم، ما يزال متأخرا في وضع إطار وطني شامل منظم للذكاء الاصطناعي يربط بين التعليم و البحث العلمي و الاقتصاد والصناعة. فعدد الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي لا يزال ضعيفًا مقارنة بدول مشابهة، ونسبة الاستثمار في البحث العلمي لا تتجاوز 0.8% من الناتج الداخلي الخام، وهي نسبة بعيدة جدًا عن المتوسط العالمي البالغ 2.3%. كما أن 70% من المقاولات المغربية الصغيرة والمتوسطة ما تزال تعتمد أساليب تدبير تقليدية لا تسمح لها بالاستفادة من التحول الرقمي المستند أساسا على قوة الخوارزميات.
و تشير الكثير من المؤشرات كذلك إلى فجوة حقيقية بين تطور أدوات الذكاء الاصطناعي عالميًا وبين وتيرة تبنيها داخل المؤسسات العمومية والخاصة في المغرب.
فبينما تعتمد كبريات الشركات العالمية على الأتمتة و خوارزميات التوقعات و سلاسل القيمة الذكية، والروبوتات التفاعلية، فإن جزءًا كبيرًا من الشركات المغربية ما يزال يصارع من أجل رقمنة الإجراءات الأساسية فقط. و لعل هذا ما يجعل التحول الرقمي المغربي يبدو في كثير من الأحيان “ترقيعا” أكثر منه “إعادة للبناء”.
و في السياق نفسه، يتزايد القلق من أن يصبح المغرب مجرد “مستورد” للتكنولوجيا بدل أن يكون “منتجًا” لها، وهو فرق جوهري يصنعه الاستثمار في المواهب و البنية التحتية والشراكات الاستراتيجية طويلة المدى.
فهل نحن أمام فرصة تاريخية لتصحيح المسار، أم أننا على وشك تفويت فرصة تكنولوجية قد لا تتكرر إلا بعد عقود؟إن السؤال الحاسم اليوم ليس ما إذا كان المغرب قادرًا على دخول سباق الذكاء الاصطناعي، بل ما إذا كان مستعدًا لفهم طبيعة هذا السباق أصلًا. فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تطور تقني، بل تحول، في ظرف سنوات قليلة، إلى ميدان صراع جيوسياسي يشبه إلى حد كبير الصراعات التي تحدث عنها هانتنغتون في تحليله لصدام الحضارات، حيث تتنافس الكتل الكبرى على النفوذ والتأثير والموارد الاستراتيجية.
وإذا كانت الحضارات تتواجه في الماضي عبر الجغرافيا والجيوش، فإنها اليوم تخوض حروب البقاء عبر الخوارزميات والبيانات والبنى التحتية الرقمية. وهنا يصبح السؤال الوجيه هو التالي : أين يتموضع المغرب في خارطة هذا المشهد العالمي؟لتقديم بعض عناصر الاجابة عن هذا السؤال دعونا نبين بداية أن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة على الذكاء الاصطناعي خلقت فضاءً عالميًا جديدًا، يفرض على الدول النامية أن تحدد بوضوح خياراتها الاستراتيجية.
فالصين تعرض نموذجًا قائمًا على التصنيع الضخم، و البنى التحتية المتطورة وسلاسل الإنتاج العملاقة، بينما تعمل الولايات المتحدة وفق نموذج قائم على تشجيع الابتكار و ريادة الجامعات و توفير بيئة العمل المناسبة للشركات. و بين هذين النموذجين، تبحث دول مثل الإمارات والسعودية عن صياغة نموذج ثالث يعتمد على رؤية سياسية موحدة و قيادة مركزية واستثمارات ضخمة في البحث والابتكار.
و في هذا الاتجاه تخبرنا الأرقام أن الإمارات رصدت مؤخرا ما يفوق 2 مليار دولار للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وأن السعودية خصصت 20 مليار دولار لمشاريع تعتمد على الأتمتة والبيانات. و لعل هذا النوع من الاستثمار الاستراتيجي مكّن هذه الدول من خلق “نقطة جاذبية” للشركات العالمية، وأتاح لها تجاوز فجوات كانت تبدو قبيل سنوات قليلة صعبة التجاوز.
نحن نعيش في عالم لا يرحم، و البقاء فيه، بطبيعة الحال للاقوى. و بالتالي، ربما يكون الدرس الأهم للمغرب هو أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ليس مسألة مالية فقط، بل مسألة رؤية سياسية تضع الذكاء الاصطناعي في قلب النموذج التنموي الجديد. فدون رؤية واضحة، ستتحول الميزانيات إلى مشاريع متفرقة، وتغيب الفاعلية ويضيع الزمن الاستراتيجي للأمة. و المغرب يمتلك اليوم عناصر قوة مهمة: الاستقرار السياسي، الموقع الجغرافي، القرب من أوروبا، و بنية تحتية رقمية في تحسن مستمر اضافة الى عدد لا يستهان به من الشركات العالمية التي تشتغل في مجالات السيارات والطائرات واللوجستيك.
كل هذا يبشر بالخير، لكن السؤال الواجب طرحه و الإجابة عنه هو الآتي: هل ستتحول هذه العناصر إلى “كتلة استراتيجية” قادرة على جذب الاستثمار الخوارزمي العالمي؟صراحة، يجب الاعتراف بأن المغرب يعيش اليوم فجوة رقمية داخلية واضحة: فجوة بين المدن والقرى، بين المؤسسات الكبرى والمقاولات الصغيرة، وبين الأطر المتعلمة والموظفين محدودي التكوين الرقمي.
و هنا، تشير دراسة حديثة إلى أن 61% من المغاربة لا يمتلكون المهارات الرقمية الأساسية، وأن 40% من الموظفين لا يمكنهم استعمال أدوات الذكاء الاصطناعي حتى لو توفرت لهم. و من المؤكد أن هذه الفجوة قد تتحول إلى “خطر حضاري” إذا لم تتم معالجتها عبر سياسات تعليمية وتكوينية صارمة. فنحن لسنا متأخرين تمامًا، ولسنا في الصفوف الأولى.
نحن في منطقة رمادية، يمكن أن تتحول إما إلى منصة إقليمية للذكاء الاصطناعي، أو إلى هامش تكنولوجي يعيش على حواف الابتكار العالمي. فهل نحن مستعدون لرفع سقف الطموح؟ و كيف نبني نهضة خوارزمية محلية؟ان المعادلة ليست تقنية فقط، بل هي مركبة و متعددة الابعاد : اقتصادية و ثقافية و تعليمية وسياسية. لماذا ؟ بكل بساطة لأن الذكاء الاصطناعي لا ينجح في بيئة لا تؤمن بالتجديد، ولا يثمر في نظام تعليمي يعاقب الخطأ بدل تشجيع التجربة.
و في هذا السياق يمكن أن نذكر أن النماذج العالمية الناجحة اعتمدت ثلاث قواعد جعلتها في القمة : الاستثمار في الإنسان، بناء منظومـة الابتكار، وتوفير الرؤية السياسية الموحدة الداعمة لهذا التحول.ان المغرب يمكنه أن يفعل الكثير و يبلي البلاء الحسن في حقل الذكاء الاصطناعي. إنه قادر، حسب آخر التوقعات الاستراتيجية،أن يخلق ما بين 200 ألف و300 ألف منصب شغل جديد بحلول 2030 إذا استثمر بشكل صحيح في مجال الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في قطاعات السيارات و الزراعة الذكية و اللوجستيك و الصحة الرقمية والصناعات الإبداعية. لكن هذا يفترض وجود كفاءات، وحاضنات أعمال، ومراكز بحوث مرتبطة باحتياجات السوق..
إن هذا المشروع ضخم يستدعي تحريك كل الطاقات و الموارد الموجودة، و ربما يتمثل التحدي الأعظم في إدماج الذكاء الاصطناعي في الإدارة العمومية، حيث يعاني جزء كبير من المؤسسات من بطء الإجراءات و التمسك بالورق علاوة على ضعف الحكامة. و في هذا الباب، فإن التحول الرقمي ليس تحديثًا تقنيًا بل إنه ذلك التحول الكبير الذي يجب أن يمس السلوك و العقلية. فالدول التي نجحت في سباق الذكاء الاصطناعي – مثل إستونيا و سنغافورة والإمارات – لم تنجح لأنها اشترت التكنولوجيا، بل لأنها غيرت ثقافة الإدارة والسياسات العمومية. و بالتالي، فان نجاح المغرب أيضا ممكن في معركة التحول الرقمي و دعامته الأساسية الاستثمار في الذكاء الاصطناعي.ما المطلوب اذا ؟
1. يجب على المغرب أن يفكر في الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز السيادة الوطنية، وليس فقط لرفع الإنتاجية، لأن السيادة الرقمية تعني امتلاك البيانات و التحكم في البنى التحتية السحابية، وتطوير منظومات تشريعية تحمي المواطنين وتخلق الثقة الرقمية.
فدون ثقة رقمية، لا يمكن لأي تحول أن ينجح، حتى لو توفرت لنا أفضل التقنيات.
2. يمكن للمغرب أيضا أن يعلن خلال السنوات الخمس المقبلة عن استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي، تجمع بين الدولة و الجامعات و القطاع الخاص، والمجتمع المدني.. إنه تجميع للقدرات حاسم و عاجل.
3. خلاصة القول أن الذكاء الاصطناعي ليس فرصة تاريخية فحسب، بل هو الفرصة الحضارية الحقيقية التي ينبغي ان ينقض عليها المغرب لتحقيق الترقي و الصعود الاقتصادي المنشود.و ختاما، فإن المغرب أمام لحظة ذهبية مفصلية قد لا تتكرر: إنها لحظة تسمح له بالانتقال من دولة هشة تبحث عن فرص في الخارج إلى دولة قوية تصنع العديد من الفرص داخليًا.. فهل سنغتنم هذه اللحظة التاريخية؟ أم سنكتفي بدور المتفرج السلبي في خضم ثورة معرفية تقنية هائلة تعيد تشكيل وجه و حدود العالم ؟



