مكناس المتخيلة: حين يكتب الفلسطيني عن مدينة لم يرهاقراءة أدبية تحليلية في قصيدة يوسف أحمد أبو ريدة

بقلم القبطان عبدالله دكدوك
المفارقة والدلالات
جاءت إليك تحوطها الأنفاسُ…فتهللي بالبِشر يا مكناسُ
فعلى ثراك تناسقت خطواتها…وثراك بعد شروقها ألماسُ
جاءت وفي الجنبين يأتنق الحلا…وعلى يديها الذوق والقرطاسُ
ستصير فردوس المدائن جنة…أشجارها الوجدان والإحساسُ
فبمن شرفتِ؟ بغادة من نرجس…هي رمز بشرى الصدق والأنفاسُ
إن أرسلت طرفا بصبحك مرة…تنمو به من طرفها الأقداسُ
وإذا حكت كان الكلام بثغرها…وحياً لذيذا للجلال قياسُ
يا حظ ما زارته كيف تألقت…في قلبه الأوطان والكراسُ
هي كل ذوق الكون، كل علومه…ولكل كل المكرمات أساسُ
من فضلها كل المواقع فضلةٌ…وبفضلها يتيقّن الوسواسُ
هي عمدة القلب الصدوق وقلبها…روحي وأهلي والمنى والناسُ.
تمثل هذه القصيدة نموذجاً بديعاً للتخيل الشعري الذي يتجاوز حدود الجغرافيا ليخلق وطناً من الحلم والحب، مدينةً تُرى بالقلب لا بالعين. ورغم أن الشاعر لم يزر المغرب ولا مكناس، إلا أن الصورة الشعرية جاءت مكتملة الإحساس، مشبعة بالدهشة، وكأن الزيارة تمت في ذاكرة سابقة، أو في وعي جمعي سابق على التجربة.
- المفارقة والدلالة: رؤية بالخيال لا بالعيان
المفارقة الأولى أن مدينة لم تُرَ تصبح في النص أقرب من الحواس نفسها.
والدلالة أن الشاعر يكتب عن عشق مؤجل، عشقٍ بالنيابة عن الروح، وكأن مكناس ليست مكاناً جغرافياً بقدر ما هي حالة وجدانية.
هذه المفارقة تمنح النص حرارة خاصة، لأن التجربة هنا ليست نقل واقع، بل خلق واقع شعري جديد. فالخيال، في هذا السياق، لا يؤدي وظيفة تزيينية، بل يقوم بدور معرفي، يُعيد بناء المكان بوصفه فكرة، لا بوصفه موقعاً. - مكناس المغربية ككائن يتنفس
يبدأ الشاعر بقوله:
جاءت إليك تحوطها الأنفاسُ… فتهللي بالبِشر يا مكناسُ
هنا تتشخصن المدينة حتى تُصبح قادرة على التهليل، كأنها كائن يشعر ويحتفي.
وتأتي الزائرة محاطة بأنفاسٍ ليست بشرية فقط، بل نفحات قدرٍ جميل، بما يحيل على بعد قدري يجعل اللقاء بين المدينة والزائرة فعلاً وجودياً.
ثم يقول:
فعلى ثراك تناسقت خطواتها… وثراك بعد شروقها ألماسُ
صورة تقوم على التحوّل:
التراب يصير ألماساً بمجرد قدومها.
إنه انقلاب جمالي يرفعه الشاعر إلى مستوى الأسطورة، حيث لا يعود المكان ثابتاً، بل قابلاً للتبدل وفق ما يسكبه فيه الإنسان من معنى.
- المرأة… بوابة مكناس
المرأة في القصيدة ليست زائرة، بل مرآة المدينة ورمزها.
يقول:
جاءت وفي الجنبين يأتنق الحلا… وعلى يديها الذوق والقرطاس
تصبح المرأة هي الذوق، وهي صانعة الجمال، وهي التي تحوّل المكان إلى معنى، والمدينة إلى نص. وهنا تتداخل الأنثى بالمدينة في علاقة رمزية عميقة، تجعل من الحضور الأنثوي مبدأً للخلق الجمالي.
ثم ينسج الشاعر أبهى صور القداسة:
إن أرسلت طرفاً بصبحك مرة… تنمو به من طرفها الأقداس
إنه الارتفاع بالمرأة إلى مقام المطهِّر والمانح للضياء.
وفي هذا إسقاط واضح على المدينة؛ فكلاهما رمز للنقاء، وكلاهما يتجاوز المادي نحو الروحي.- مكناس الفردوس… أو جغرافيا العاطفة
حين يقول:
ستصير فردوس المدائن جنة… أشجارها الوجدان والإحساسُ
يتحرر الشاعر من الجغرافيا ليصنع مدينة من الروح لا من الحجر.
مكناس هنا ليست مدينة تاريخية فحسب، بل فردوس وجداني ينبت من تربة الحس.
ومن منظور فلسفي، تتحول المدينة إلى فكرة مُتخيلة، والخيال هنا ليس نقيض الحقيقة، بل شرطاً من شروطها. فالمكان المتخيَّل يبدو أحياناً أكثر صفاءً من المكان المعاش، لأنه لم يُستهلك بالرؤية اليومية، ولم تُثقله العادة.- تزاوج الوطن والمرأة والمدينة
يقول الشاعر:
يا حظ ما زارته كيف تألقت… في قلبه الأوطان والكراسُ
الصورة هنا مدهشة:
فالزيارة لا تترك أثراً جمالياً فقط، بل تُعيد ترتيب الأوطان داخل القلب.
وتصبح المدينة قادرة على إعادة تشكيل الوعي والانتماء.
ولذلك تكون المرأة/المدينة:
هي كل ذوق الكون، كل علومه… ولكل كل المكرمات أساسُ
هنا تتحول مكناس إلى مركز قيمي، لا بمعنى التفوق المكاني، بل بمعنى النقاء الرمزي.
وفي النهاية:
هي عمدة القلب الصدوق وقلبها… روحي وأهلي والمنى والناسُ
تتداخل الصورة بين المرأة والمدينة والروح، ويغدو الانتماء لها انتماءً للحياة نفسها، لا لمكان بعينه.- الأسلوب: فخامة الماضي ورهافة الحاضر
يمزج الشاعر بين:
الجرس الكلاسيكي
المجازات الطللية
الرهافة الحديثة
اللغة الوجدانية العميقة
فتأتي القصيدة موزونة ومقفاة، لكنها محمّلة بوعي معاصر يجعل المدينة ليست “مكاناً” بل حالة شعورية وفكرة وجودية.- مكناس كجسر بين فلسطين والمغرب (البعد الفلسفي الرمزي)
لا تقف القصيدة عند حدود المديح، بل تنفتح على أفق أعمق، حيث تصبح مكناس مدينة ممكنة في الوعي العربي، لا مدينة محصورة في الخريطة.
فالشاعر الفلسطيني، القادم من جرح المكان، يعيد بناء مكان آخر بالكلمة، وكأن الشعر هنا فعل مقاومة ناعمة، وبناء رمزي لوطن لا تصادره المسافات ولا الحدود.
وبهذا المعنى، تنتصر القصيدة لفكرة أن الانتماء الحقيقي انتماء قيمي وشعوري، وأن المدن تُسكن أولاً في اللغة، ثم في الجغرافيا.
لتبقى قصيدة شاعر فلسطين يوسف أحمد أبو ريدة عن مكناس مثال ناضج على قدرة الشعر العربي على:
تحويل المسافة إلى قرب
وتحويل الغياب إلى حضور
وبناء مدينة من الضوء دون أن تطأها القدم
مكناس في هذه القصيدة مدينة متخيلة، لكنها أكثر وضوحاً وبهاءً من مدن تُرى بالعين، لأنها مدينة تُرى بالقلب واللغة والخيال.



