فيضانات آسفي.. تحقيق في كارثة مناخية كسرت يقين المدينة

لم تكن الأمطار العاصفية التي ضربت إقليم آسفي مجرد تساقطات موسمية عابرة،بل تحولت في ظرف ساعات إلى كارثة إنسانية وعمرانية غير مسبوقة في ذاكرة المدينة.سيول جارفة، محلات مدمرة، ضحايا حاصرتهم المياه ومدينة عتيقة تحولت شوارعها التاريخية إلى مجار مائية في مشهد أعاد طرح أسئلة كبرى حول التغير المناخي-الاستعداد الحضري وحدود البنية التحتية.
من قلب هذه المأساة تبرز شهادة إدريس بنهيمة،ابن المدينة القديمة ورئيس جمعية حوض آسفي،باعتبارها مدخلا لفهم ما جرى بعيدا عن الانفعالات وقريبا من التحليل العلمي والمؤسساتي.
المدينة القديمة في قلب العاصفة

في درب القوس،بمحاذاة المسجد الأعظم يوجد منزل عائلة بنهيمة داخل النطاق الأكثر تضررا من الفيضانات.هنا في قلب المدينة العتيقة تركزت الخسائر الأكبر،حيث اجتاحت السيول الشارع التجاري الرئيسي الذي يضم القيساريات ومحلات المجوهرات والصناعة التقليدية وحولته في دقائق إلى واد جارف. محلات تاريخية أغلقت إلى أجل غير مسمى، ورش خزف دمرت بالكامل من بينها ورشة المعلم مولاي أحمد سرغيني، أحد رموز هوية آسفي الحرفية وناد رياضي عريق جنان الفسيان للتنس سوي بالأرض. الأخطر من ذلك أن عددا من الضحايا كانوا داخل محلات لجؤوا إليها هربا من المطر قبل أن تحاصرهم المياه المفاجئة.
شهادة بنهيمة: ذاكرة المدينة ومنطق الهندسة
ينتمي إدريس بنهيمة إلى عائلة لعبت أدوارا محورية في تاريخ الدولة المغربية،من محمد بنهيمة الوزير الأول السابق إلى أحمد الطيبي بنهيمة وزير الخارجية الأسبق. غير أن شهادته هنا لا تستمد قيمتها من الأسماء،بل من تقاطع الذاكرة الشخصية بالخبرة التقنية. يؤكد بنهيمة أن ما عرفته آسفي ظاهرة مناخية محلية،شديدة التركز وغير مسبوقة،موضحا أن الأمطار الغزيرة تهاطلت في مجال جغرافي ضيق جدا وخلال زمن وجيز وهو ما تؤكده صور الأقمار الاصطناعية.هذا العامل بحسبه هو مفتاح فهم الكارثة.
آسفي – المحمدية: اختلاف الأسباب وتشابه النتائج

في مقارنة لافتة،يستحضر بنهيمة فيضانات المحمدية سنة 2003 التي أدت إلى كارثة مصفاة لاسمير.لكنه يصر على أن السبب مختلف جذريا،في المحمدية تدخل بشري مباشر،توسع عمراني عشوائي، تقليص المصب الطبيعي لوادي المالح .اما في آسفي غياب سبب بشري مباشر،ظاهرة مناخية مركزة مع شدة غير معهودة في زمن قصير. ويخلص إلى أن بناء سد أو منشأة كبرى على واد الشعبة لم يكن ليمنع ما حدث، لأن حجم المياه وسرعة تدفقها تجاوزا السيناريوهات التقليدية للتخطيط الهيدرولوجي.
البنية التحتية: هل فشلت أم تجاوزها المناخ؟
أحد أكثر الأسئلة تداولا بعد الكارثة هو هل قصرت البنية التحتية؟
بنهيمة يرفض الإجابة المبسطة،مؤكدا أن البنيات الحالية صممت لمواجهة مخاطر مناخية كانت معروفة في السابق وليس لظواهر قصوى بدأت تظهر حديثا بفعل التغير المناخي ويضيف أن النقاش الحقيقي يجب أن ينتقل من منطق “من أخطأ”؟إلى منطق “كيف نتكيف”؟. في هذا السياق يطرح تساؤلا عمليا هل يجب إعادة تصميم مصارف المياه داخل المدينة القديمة،بحيث يتم توجيه السيول مباشرة نحو البحر دون اختراق النسيج العمراني التاريخي؟
التغير المناخي يطرق أبواب المدن
يتقاطع تحليل بنهيمة مع قراءات خبراء الأرصاد الذين ربطوا هذه الظواهر بظهور جبهات مدارية متحركة باتت تؤثر على المغرب،كما حدث مؤخرا في مناطق جنوبية مثل طاطا وهو ما يعزز فرضية أن المغرب دخل مرحلة مناخية جديدة تتسم بالفجائية والتطرف. هذه التحولات تضع المدن العتيقة مثل آسفي في وضع هش لأنها ذات نسيج عمراني ضيق تفتقر لمساحات امتصاص طبيعية تجمع بين السكن-التجارة والتاريخ
تحقيق قضائي وتدخل ميداني
بالتوازي مع ذلك،فتح الوكيل العام للملك لدى محكمة آسفي تحقيقا لتحديد ملابسات الفاجعة في خطوة تروم كشف الحقائق دون إصدار أحكام مسبقة وفي الميدان حظي تدخل السلطات العمومية بإشادة واسعة من الساكنة سواء من حيث سرعة التدخل أو عمليات الإنقاذ. كما أعلنت جمعية حوض آسفي برئاسة إدريس بنهيمة عن عقد اجتماع طارئ لتنسيق جهود الدعم ومساعدة المتضررين في انتظار بلورة رؤية جماعية طويلة المدى.
ما بعد الفيضانات: مدينة أمام اختبار جديد
في ختام شهادته، يلخص بنهيمة الوضع بكلمات تختزل حجم التحول خلال سبعين عاما،لم تعرف آسفي فيضانات بهذا الحجم.هذه قطيعة مع الماضي وعلينا أن نتعلم كيف نعيش مع واقع مناخي جديد. فيضانات آسفي ليست حادثا معزولا بل جرس إنذار لمدن مغربية أخرى خصوصا تلك التي تجمع بين التاريخ والهشاشة المناخية.والسؤال الذي يبقى مطروحا: هل سننتظر الكارثة المقبلة أم نبدأ من الآن في إعادة التفكير في علاقة المدينة بالمناخ؟




