أخبارالذكاء الاصطناعي AIالرئيسيةفي الصميم

كرة القدم.. هل أصبحت ديانة عالمية ؟

بقلم: د. مهدي عامري- أستاذ و خبير الذكاء الاصطناعي و التواصل، المعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط

أشاهد، بكثير من المرارة، هذا المشهد الكوني المتكرر: عيون مشدودة إلى الشاشات، قلوب معلّقة بالكرة، وأعصاب متوترة لتمريرة أو تسديدة، فيما العالم الحقيقي ينهار بهدوء خارج إطار الصورة.

لست أفهم، و يبدو لي أن من حق أي عقل سليم أن يتساءل: كيف نجح العالم أو بالأحرى صناع القرار، عبر منظومة إعلامية تواصلية معقّدة، في جعل كرة القدم مركز الكون الرمزي، وموضوعه الأسمى، ومعناه المؤجل؟ كيف صارت مباراة من تسعين دقيقة، مع الأشواط الإضافية وربما ضربات الترجيح، حدثًا مبهرا يتجاوز في أهميته الصحة والتعليم والكرامة والعمل؟ لقد نجحوا في تخدير العقول ! و هنا تكمن عبقرية النظام الرمزي: حين ينقلب الترفيه إلى أداة للهيمنة، واللعب إلى آلية لصرف الانتباه، والفرجة إلى أسلوب للحياة.

و من المؤكد أن الإعلام، في هذا السياق، لم يعد ناقلًا للحدث، بل صار صانعًا أولا له، ومُعيدا لتشكيل الوعي الجمعي، ومهندسًا لتراتبية الاهتمام. و في هذا الاتجاه فإن كرة القدم لا تُقدَّم كلعبة فقط، بل كقضية وجودية هوياتية.. لا أبالغ.. بل كمعركة كونية بين “نحن” و“هم”، بين المنتصر والمهزوم، بين المجد والعار. وهكذا، يتم تدريب الشعوب على التفكير في أن الكرة هي الشيء الأكثر أهمية في العالم، وأن ما عداها تفاصيل هامشية يمكن تأجيلها إلى ما بعد صافرة النهاية.

و المفارقة المؤلمة أن النساء أيضًا، اللواتي عانين تاريخيًا من التهميش والإقصاء، صِرن جزءًا من هذا المشهد الاستهلاكي، يصرِفن وقتًا هائلًا في متابعة المباريات، لا بوصف ذلك تحررًا أو مشاركة رمزية في الفضاء العام، بل بوصفه اندماجًا في منطق الفرجة ذاته، حيث تُعاد إنتاج الهيمنة بأشكال ناعمة. أنا لا أتحدث هنا عن ذوق شخصي أو اختيار بريء، بل عن هندسة تواصلية دقيقة تُعيد توجيه الرغبات، و ترتيب الأولويات، وتمنح الإحساس الزائف بالمشاركة في “حدث عالمي”، بينما الواقع الاجتماعي والسياسي يُدار بعيدًا عن الأضواء.

يحيا الوطن ! و الترفيه جميل، بكرة القدم أو بغيرها، ولا أحد يعادي الفرح لذاته، لكن المأساة تبدأ حين يتحول الترفيه إلى إدمان جماعي، وحين تتهافت الحشود على مشاهدة مباراة في تسعين دقيقة، ثم أخرى، ثم ثالثة، وفق برنامج كامل يمتد لشهر أو أكثر، وكأن الزمن لا قيمة له إلا إذا صُرف في الفرجة.

و هنا يطرح السؤال البسيط في ظاهره و العميق في جوهره: ماذا أستفيد أنا؟ ماذا يربح المواطن من هذا الاستنزاف الزمني والنفسي؟ أنت تعرف أن المستفيد واضح ولا يحتاج إلى كثير من التحليل: الشركات الكبرى أولًا، التي تتاجر بكرة القدم وتحوّل العاطفة إلى أرباح، والانتماء إلى إعلانات، والحلم إلى عقود رعاية. ثم المنتخبات واللاعبون الذين سيحصدون أرباحًا بالملايير ، وتُصنع لهم هالة النجومية، ويُقدَّمون كنماذج نجاح كونية. أما أنت، أيها المواطن، فستنتشي للحظات، سترى أهدافًا تُسجَّل، وستصرخ، وستبكي، وستفرح، ثم بعد دقائق تعود إلى الواقع المرّ: البطالة، البؤس، الفقر، تدهور القدرة الشرائية، الغلاء الفاحش، هشاشة الخدمات، لا صحة و لا تعليم، و موت الأمل. فهل تصلح كرة القدم كل هذا؟ هل يمكن لهدف مدهش أن يُصلح مستشفى منهارًا، أو مدرسة مهجورة، أو منظومة قيم تتآكل تحت ضغط الاستهلاك والفراغ؟ إن الإعلام، حين يبالغ في تضخيم الحدث الكروي، لا يفعل ذلك بدافع البراءة، بل لأنه جزء من اقتصاد الانتباه، حيث تُشترى الدقائق والثواني، ويُقاس النجاح بعدد المشاهدات، لا بعمق المعنى. وهكذا، يتحول المواطن إلى مستهلك دائم، لا للكرة فقط، بل للخطاب الذي يرافقها: الحماسة الفارغة، والخطاب الوطني السطحي – و الوطن اقدس من ذلك – ، إضافة إلى الخطاب العاطفي الذي يختزل الانتماء في تشجيع منتخب ما، ويختزل الكرامة في الفوز العابر.٤

بالعلم و العمل تتقدم الدول و الشعوب.. و ليس بشيء آخر..

إنك أيتها الكرة مضيعة للوقت فأنت تُفرغين الزمن من قيمته، و تقنعين الإنسان بأن حياته يمكن أن تُعلَّق على نتيجة ما في مباراة ما..

و ختاما، أظن أننا أمام واحدة من أنجح عمليات التخدير السياسي في التاريخ المعاصر، فكرة القدم أفيون الشعوب، لا لأنها لعبة سيئة، بل لأنها استُعملت، إعلاميًا وتواصليًا، كبديل عن التفكير، وكصمام أمان لتنفيس الغضب، وكفضاء آمن لتصريف الطاقة التي كان يمكن أن تُوجَّه إلى السؤال الحر والمطالبة الواعية والتغيير، فحين يصرخ الملايين في المدرجات أو أمام الشاشات، يبدو المشهد وكأنه ثورة، لكنه في الحقيقة غضب بلا أثر، و انفعال بلا سياسة، و تشنج بلا ذاكرة.

وبعد أن تنطفئ الأضواء، يعود كل شيء إلى مكانه: الرداءة نفسها، الاختلالات السياسية نفسها، الإحباطات و الانهزامات نفسها. هنا تكمن المفارقة الكبرى: يتم إقناعك بأنك “شاركت” في حدث عالمي، بينما لم تشارك في أي قرار يخص حياتك.

يتم إقناعك بأنك “فزت”، بينما لم يتغير شيء في شروط عيشك و جودة حياتك. يتم إقناعك بأنك “صنعت التاريخ”، بينما التاريخ الحقيقي يُكتب في أماكن أخرى، بعيدًا عن الشاشات، فهل نحن أمام منظومة بارعة في صناعة الإلهاء ؟ هل نحن تحت رحمة نظام عالمي نجح في تحويل القضايا الكبرى إلى ضجيج هامشي، وفي جعل السؤال عن الجدوى يبدو نشازًا و خيانة للفرح ؟ فيا كرة القدم.. تقدمين الفرجة و المتعة.. شكرا جزيلا.. لكن هل أنت قادرة على إصلاح تدهور الصحة والتعليم؟ هل تستطيعين وقف الغلاء الفاحش؟ هل تستطيعين ترميم منظومة قيم تنهار و تنهار و تنهار؟

اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد..

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button