أخبارالرئيسيةثقافة و فن

رسائل من القمّة

ما كنتُ أظنّ أن للجبل ذاكرةً تحفظ الخطى، ولا كنتُ أتصور أن للصخر قلبًا يخفق، حتى جاء اليوم الذي تبدّلت فيه الأشياء من حولي على نحوٍ لم أعرف له سببًا ولا تفسيرًا. كنتُ أقيم في بيتٍ صغيرٍ عند سفح جبلٍ مهيب، يطلّ على الوديان كشيخٍ عارفٍ يتأمل أبناءه في صمتٍ عميقٍ لا يخلو من هيبةٍ وحنين.

بقلم: د. مهدي عامري

كانت حياتي تمضي في نظامٍ رتيبٍ هادئ: أدرّس في المدرسة القروية القريبة مني – 45 دقيقة مشيًا على الأقدام – ثم أعود إلى غرفتي الضيقة أراجع كتبًا من الفلسفة والتاريخ ورثتُها عن أبي، أجد فيها ما يُعيد إليّ طمأنينةً كدتُ أفقدها في هذا العالم الذي تغيّر وجهه. كنتُ أعيش من القليل، وأرضى بأقلّ منه، وأحسب أني بلغتُ من السكينة مقامًا لا تزعزعه الأيام، إلى أن جاءت تلك الليلة الموعودة التي غيّرت ملامح الوجود.

كان الشتاء قد أحكم قبضته الفولاذية على الجبل، وكان الثلج يكسو القمم بوشاحٍ من البياض الملائكيّ، والبرد يلسع العظام كأنه يختبر صبرها. جلستُ أمام حاسوبي أراجع رسائل البريد الإلكتروني، فلمحتُ عنوانًا إلكترونيًا غريبًا لا يشبه ما أعرف.

ابتسمتُ في البداية ظانًّا أن الأمر لا يعدو مزحةً من أحد تلاميذي، لكني ما إن فتحتُ الرسالة حتى تجمّد الدم في عروقي. كانت الكلمات مكتوبة بلساني، وإيقاعها يشبه طريقتي في الكتابة، فكدتُ أسمع صوتي ينبعث من بين الحروف:

«مرحبًا يا يونس،
أنا أنت، ولكن من زمنٍ قادمٍ بعد موتك بعشر سنين.»

تراجعتُ إلى الوراء، أقرأ الجمل مرةً بعد أخرى، وأحسّ أني في حضرة نفسي، لكن في بُعدٍ آخر لا أراه. وفي آخر الرسالة سطرٌ واحدٌ جعل قلبي يرتجف:

«في اليوم الخامس من هذا الشهر، سيسألك الشيخ عبدالرؤوف أن توقّع على وثيقةٍ تخصّ الأرض القديمة، فلا تفعل.»

أغلقتُ الحاسوب، وجلستُ أحدّق في النافذة حيث كان الجبل يلوح لي ككتلةٍ من النور المتجمّد. أحسستُ أن شيئًا في داخلي انكسر، وأن صوتًا خفيًا يخرج من الأعماق يذكّرني بأن كل ما حولي ليس كما يبدو. حاولتُ النوم، لكن الزائر الحبيب جفاني. كنتُ كلما أغمضتُ عيني رأيتُ الجبل يقترب من نافذتي شيئًا فشيئًا حتى كاد يلمسني بأنفاسه الباردة. ومع طلوع الفجر، استيقظتُ على رنين الهاتف، فرأيت إشعارًا جديدًا: رسالة ثانية من العنوان نفسه.

«يا يونس،
لا تنزل إلى السوق غدًا، سيحدث ما لا يمكن إصلاحه.
وإن سمعتَ صفير الريح ثلاثًا، فاعلم أن الوقت قد بدأ ينفد.»

قرأتُها مرارًا كمن يقرأ نبوءةً تخصّه، وأحسستُ أن الهواء يراقبني ويتصيد خطواتي، بل كأن الجبل كله يسمع أنفاسي. لم أدرِ هل أنا أعيش يقظةً مقلوبة أم حلمًا استحال إلى واقع، لكني أيقنتُ أن ما يجري أكبر من طاقتي على الفهم. تساءلتُ في نفسي: أهي روحي التي تسبق موتها وتكتب إليّ؟ أم هو وعيي وقد انفصل عن جسدي وراح يحذرني من مصيرٍ مجهول؟ كانت الأسئلة تتطاير في رأسي كالعصافير المذعورة، ولم أجد لها جوابًا إلا الصمت.

وفي اليوم الخامس من الشهر، كما ورد في الرسالة الأولى، طرق بابي الشيخ عبدالرؤوف. كان رجلًا وقورًا، وجهه مزيجٌ من النور والغموض، وصوته هادئ كصوت الجبل حين يتنفس في الصباح. جلس أمامي مبتسمًا وقال بصوتٍ مطمئن:
«يا بنيّ، اجتمع الورثة واتفقوا على بيع الأرض القديمة، ولن يتم الأمر إلا بتوقيعك، فهيا وقّع حتى نرتاح جميعًا.»

نظرتُ إليه في حذرٍ وسكوت. تذكرتُ الرسالة وكلماتها التي حُفرت في ذاكرتي كالنقش على الحجر. تظاهرتُ بالبحث عن القلم، ثم قلت: «دعني أراجع الأوراق الليلة، وسأجيبك في الغد إن شاء الله.» ابتسم الشيخ ابتسامةً خفيفة، وفي عينيه بريقٌ يوحي بأنه يعرف ما لا أعرف، ثم قال: «افعل، ولكن احذر أن يطول تفكيرك، فإن التردد بابٌ لا يُفتح إلا على العدم.» وترك المكان ببطء، يجرّ نفسه بخطواتٍ متثاقلة.

وكانت تلك الليلة الأطول والأصعب في حياتي. جلستُ أراجع رسائل الماضي، وكنتُ كلما أقرأ سطرًا أحسّ أن الجبل يقترب أكثر، وأن الهواء صار أثقل. ومع الساعة الثالثة، سمعتُ صفير الريح ثلاث مراتٍ متتابعات كما جاء في التحذير، ثم انطفأ المصباح فجأة، وامتلأت الغرفة بنورٍ أزرق باهتٍ ينبعث من النافذة. اقتربتُ منها فإذا بي أرى القمم تضيء وتخفت كأنها قلبٌ ينبض بالحياة. أحسستُ أنني في حضرة كيانٍ مهيبٍ شامخٍ لا يُرى بالعين المجردة، وأن الجبل نفسه يراقبني بعينين من صخرٍ وثلج. وفجأة، وصل بريدٌ جديد، يحمل العنوان ذاته، ولكن هذه المرة كان المرسل والمستلم واحدًا: من يونس إلى يونس. فتحتُ الرسالة بيدٍ مرتجفة، فإذا بها تقول:

«إن لم توقّع اليوم، ستبقى هنا إلى الأبد، وستنقلب صوتًا في ذاكرة الجبل.»

رفعتُ رأسي نحو الجدار، فإذا بظلّي يتحرك وحده، ثم يمتدّ نحو الباب كأنه يريد أن يغادرني. حاولتُ أن أناديه فلم يخرج صوتي. أمسكتُ بالقلم لأوقّع كما لو كنت أبحث عن مخرجٍ من هذا الرعب، لكن النافذة انفتحت فجأة، ودخلت ريحٌ عاتية قلبت الأوراق كلها. رأيتُ الصفحات تتطاير في الهواء وتلتفّ في دوّامةٍ من النور حتى بدا لي أن الجبل نفسه يكتبني، وأن حياتي سطرٌ في ذاكرته العتيقة.

استيقظتُ مع الفجر، لا أدري أكنتُ نائمًا أم غارقًا في حلمٍ طويلٍ كالحياة. كان الجبل ساكنًا في وقاره، والثلج يغطي قممه كما يغطي الكفن جسد أهلِ الله وأوليائه. نظرتُ إلى الطاولة، فرأيت الورقة التي لم أوقّعها بالأمس، وقد كُتب في أسفلها بخطٍّ يشبه خطّي:

«لقد اخترتَ الصمت، فاخترنا لك البقاء.»

تجمّدتُ في مكاني، وشعرتُ أنني لم أعد أملك جسدي. اقتربتُ من النافذة، فرأيت على الزجاج أثر كفٍّ من ثلجٍ ناصعٍ، كأنها تحيةُ وداعٍ من نفسي القديمة. عندها أدركتُ أني لم أعد ذاك الذي كان. كنتُ قد أصبحتُ جزءًا من الجبل، أو لعلّ الجبل ابتلعني كما تبتلع الأرضُ بذرتها. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد أحدٌ في القرية يسمع صوتي، لكنهم كانوا كلما هبّت الريح في أعالي القمم يسمعون همسًا يشبه اسمي، فيقولون:
«إنه يونس، عاد من الصمت ليحدثنا عن قومٍ يكتبون من وراء الزمن.»

ومن عجبٍ أني، كلما استحضرتُ تلك الليالي، وجدتُ في قلبي سكينةً لم أعرفها من قبل، كأن الموت لم يكن فناءً بل اكتمالًا. لقد فهمتُ متأخرًا أن الرسائل لم تكن إنذارًا بل هدية، وأن الصمت الذي ظننته خوفًا كان طريق النجاة، لأن من يُصغي إلى صوت الجبل يسمع الحقيقة التي لا تُقال. ومنذ أن صرتُ صدى في ذاكرة القمم، لم أعد أطلب تفسيرًا، لأن كل سؤالٍ يصعد إلى الجبل يعود منه جوابًا في شكل ريحٍ تقول للحيارى:

إن من اختار الصمت فهم، ومن كتب فهم، ومن جمع بين الصمت والكتابة صار خالدًا مخلّدًا في ذاكرة العالم.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button