ليل الاستبداد… حين يتحول الوطن إلى سجن كبير

بقلم: الاستاذ مولاي الحسن بنسيدي علي
أيها الليل البهيم، ما عدتَ ليلًا يُستحب فيه السمر أو تأنس فيه الأرواح، بل غدوتَ سوادًا مقيمًا في النفوس، مقيمًا في ذات “المخشوشن غير عزيز” من صار غولًا يلتهم الأخضر واليابس، ويعيث في الأرض فسادًا متكئًا على جلادين من اتباعه لا يعرفون للرحمة سبيلًا، يرفعون السياط على ظهور الناس دون تمييز بين صغير أو كبير، ويعصرون من دمائهم كؤوس خمر، فينتشون بأنينهم، ويحتفلون على صرخاتهم. إنك لست مجرد ليلٍ عابر، بل أنت زمن مظلم تجسّد في مرحلة كاملة، مرحلةٍ جُعلت فيها المؤسسات أدوات ابتزاز لا حماية، وتحولت فيها الحقوق إلى مجرد قناع يخفي ملامح البطش، وصارت السلطة مسرحًا لغطرسة فردٍ أو جماعة أو أحزاب تبرر القمع باسم الشرعية وتسوغ الطغيان بشعارات زائفة عن الاستقرار والتنمية وإعادة تربية المواطنين ونعوت قدحية.
لقد صنعت المرحلة من بشر ضعفاء غيلانًا يتسلطون على الناس بسلطة السوط لا سلطة القانون، وبدل أن تكون الحكومة رافعة للأمل تحولت إلى ماكينة لتوليد الخوف، بدل أن تبني مدرسةً للفكر أقامت سجناً للوعي، وبدل أن تسقي العقول بالمعرفة أطعمتها الرعب. هذا فساد لا يُختزل في سرقة المال العام أو نهب الثروات، بل هو مشروع منظّم لإعادة إنتاج الخنوع، مشروع يقوم على إذلال المواطن وتجريده من كرامته حتى يغدو مجرد رقم في قافلة الخضوع.
الاقتصاد في زمنك يا ليل ليس حراكًا مشروعًا بل نزيف متواصل، موارد تُحوَّل إلى حسابات مغلقة، وصفقات تعقد في العتمة، وثروات توزع على المقرَّبين كأنها غنيمة حرب، في حين يترك الشعب يتخبط في عراء الحاجة. النجاح لم يعد يقاس بمستوى الصحة أو التعليم أو رفاه المجتمع، بل بحجم الحسابات البنكية ومقدار النفوذ في دوائر مغلقة. إنها جنايات مكتملة الأركان، ليست مجرد أخطاء عابرة أو تجاوزات محدودة.
لغة المرحلة يا ليل هي لغة التهديد، لغة تحوِّل الكلمات إلى أسلاك شائكة حول العقول، أما لغة الناس فهي لغة الصمود والسؤال. هنا يصبح لزامًا على الكتاب والمفكرين والائمة والفقهاء أن ينتزعوا الكلمات من فم الاستبداد، أن يحرروا اللغة من أسر التبرير، وأن يجعلوا القلم شاهدًا لا خادمًا، وسيفًا لا مداهنًا. إن الكتابة لم تعد ترفًا جماليًا، بل فعل مقاومة في زمن تُكمم فيه الأفواه ويُسجن فيه السؤال.
وإذا كان الناس يئنون تحت وطأة القمع، فإن النخب الصامتة تتحمل ذنبًا أكبر، لأنها ارتضت أن تكون شاهدة زور على مسرحية الظلم التي تنتجها احزاب اتلفت الزرع والضرع. صمت المثقف خيانة، وتبرير السياسي تواطؤ، وادعاء الحياد خضوع متقن. وما لم تملأ الكلمة الفراغ، وما لم يتصد النقد لكل زيف، فإن المرحلة ستبقى تنجب عهودًا من الظلام.
لكن الليل، مهما طال، يظل مقيمًا على موعد مع الصبح. والظلم، مهما تمدد، يظل يحمل في داخله بذرة فنائه. لذلك أيها الليل البهيم، اعلم أن رحيلك محتوم، فإن لم ترحل بوعي الشعوب وصوت الحق، سترحلك ريح عاصفة وتذروك في هواء التاريخ، ويصبح ذكرك لعنة تتناقلها الألسن: هنا كان مستبد، هنا عاش غول التهم البلاد والعباد، هنا طغى وتكبر، ثم سقط كما يسقط كل ظالم، وبقيت العدالة حلمًا يتوارثه الناس، ويستفيقون عليه كل صباح.
وامل الشعب المقهور في الله وفي امير المؤمنين أن يستجيب لمطالبه لمحاسبة المفسدين واقالتهم



