القيم الإنسانية وقيم الرقمنة
بقلم- عبدالسلام العزوزي
تغيرت أحوال الناس بسرعة غير مسبوقة في عصرنا الحالي، وتغيرت قيم المجتمع وشغل الناس السؤال عن من يتحكم في حياتنا ومعلوماتنا وفي قيمنا أيضا؟ هل تحل قيم الرقمنة محل قيم الإنسانية؟
الجواب عن هذا السؤال نجده في كتاب “الانقسام في العلاقات بين الناس في عصر الآلة” لمؤلفه “مايكل بيغيا”، مدير مدرسة “غرينلي للصحافة والاتصالات” في جامعة أيوا، الأمريكية. والذي يؤكد فيه على أننا بحاجة إلى التأمل في العواقب المحتملة لاعتمادنا المتواصل على التكنولوجيا الرقمية”.
يأتي الجواب من داخل دولة عظمى، تصدرت صناعة التكنولوجيا وتفننت في كل وسائل التواصل العصرية، فهل فكرت باقي دول العالم الثالث في ما قد تحدثه هذه الثورة الرقمية من تغييرات جذرية على سلوك الفرد وقيمه الطبيعية؟ خصوصا وأنها لم تتخذ حتى الاحترازات القانونونية والتدبيرية لتقنين وتأطير هذا الوافد الجديد الجاثم بسلطة الصوت والصورة وسلطة التنوع والتشكل على أنفاس الناس الذين لم يجدوا مفرا من التعايش معه والتكيف مع تقنياته، لكونه ضرورة الحياة اليومية في عصرنا الحالي.
يقول الكاتب في مؤلفه: “إن التكنولوجيا تؤدي ببطء وتدريجياً إلى تآكل بعض مبادئنا الأساسية”، وهو ما حدث بالفعل في أغلب المجتمعات المعاصرة، حيث انمحت القيم الانسانية السليمة أو كادت أن تمحي من تعاون، وتعاطف، ورحمة، وقول الحقيقة، وإنصاف الآخر، والحرص على احترام المسؤولية ، ما فتح المجال للجشع والعنف حتى الغلو والتنافر فيما بين إفراد الأسرة الواحدة وانعدام الجلسات الأسرية الحميمية وانعدام المسؤولية وتفشي الغش ومظاهر الفساد بكل تلويناته، حيث ساد الرعب في نفوس الناس، ولكثرة استعراض مظاهر العنف والقتل في وسائل الاعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، حتى أصبح أمرا معتادا تعايش معه الناس بشكل تدريجي، إلى درجة أصبح معها الشباب والكهول يتفننون في البث المباشر لأعمال إجرامية بغيضة ومقززة للمشاعر الإنسانية النبيلة.
هذه نتائج الرقمنة المعاصرة التي غزت العقول قبل البيوت ومقرات العمل. وقد أصبحت وسيلة من وسائل الهدم المتعددة للقيم الإنسانية، إلى درجة أنها استطاعت إلى حد ما أن تفرغ جوهره من حمولته الفطرية كإنسان، وهو ما ينذر بخطورة وحساسية الحالة النفسية للمجتمع، ويطرح بإلحاح كبير التفكير في إعادة بناء القيم الإنسانية النبيلة لدى المجتمع، لأنها الكفيلة باحتباس هذا الغلو في سلوكات الناس العابر للقارات، حيث يشجع على نشر الفتنة التي لا تستقيم معها القيم، ولا تستقر معها أحوال الناس، ولا يتطور في ظلها النمو الاقتصادي، ولا يستتب الاستقرار السياسي، ولا السلم الاجتماعي، ما يدفع العالم إلى الغوص في فوضى عارمة تجرف معها اليابس والأخضر، وتعود بنا هذه الفوضى إلى الوراء لنعيش الحياة البدائية الأولى التي شهدها التاريخ الإنساني في مراحل تنشئته الأولى.
لذلك فالحفاظ على القيم الإنسانية الشمولية هي الكفيلة بإيقاف الحروب، ورفع قدر الوعي الإنساني والضمير، كما فعلت في سابق العصور، ويوصي “بيغيا”بتدريس أخلاقيات الإعلام والتكنولوجيا، صدَّا لهذا الفيض من الأخبار الزائفة التي تتناقلها وسائل الإعلام الرقمية والتي تشتمل على أخبار زائفة وحقائق غير منطقية وغير واقعية.
وتنكسر القيم الإنسانية
تنكسر القيم البشرية في عصرنا الحالي، مثلما تنكسر قارورة الماء، فتصبح لاقيمة لها بعدما كانت مصدر حياة، وهي تفرغ مرغمة من الماء الذي هو مصدر حياة الكون بكل مخلوقاته، كذلك قيمنا الإنسانية، حطمتها ظواهر العصر وآليات عصرنته ومادياته وصخبه وإفرازاته الناقمة على رتابة الحياة ونعيم العيش الجماعي بين الناس ، فاجتهدت بكل وسائلها التكنولوجية المتطورة وضغطها المادي سعيا لتحقيق حياة أكثر عصرنة وأكثر سرعة، وأكثر رفاهية وأكثر بذخا، وأكثر تطورا، فأبدع الانسان الحالي كل هذه التقنيات الرقمية السريعة التي غيرت مسار الحياة البشرية من فضاء هادئ ومتوازن إلى حد الرتابة إلى عالم فرض قياس سرعته وتطوره على الإنسان، أكثر مما كان يتصور، فحوله إلى كائن بشري مملوك لهذه الكائنات الرقمية التي لا تؤمن إلا بالسرعة والدقة والعمل المتواصل أكثر من سرعة الزمن.
إن إشكالية العصر الحالي ، لم تعد فقط في هذا الإنتاج الرقمي الضخم ، إنما في مدى قدرة الإنسان التكيف مع هذا التطور السريع والمتواصل للآليات الحديثة التي منطقت وضبطت سلوكات الناس وأحاسيسها.هذه الثورة التكنولوجية التي هدمت كل القيم وكل المسافات وحتى الزمن لتحول العالم بأسره إلى قرية صغيرة يجتمع فيها كل الشعوب ويتواصلوا ويعقدوا الصفقات وينسجوا حوارات حميمية من خلال غرف الدردشة وباقي وسائل التواصل، كل ذلك عبر وسائل افتراضية بالرغم من بعد المسافات والمساحات الزمنية .
ولذلك، يطرح وبإلحاح السؤال الأكبر على مجتمعاتنا المعاصرة، هو كيف يمكن تحصين الإنسان من إخطبوط الآلة الرقمية ووسائل التواصل التي تخدش في جوهر الحميمية الإنسانية أكثر من أن تنسج علاقات وصداقات إنسانية وتجارية ومصلحية بين الشعوب، إذ الإحساس بالقيم الإنسانية ينبغي أن يكون جزءاً من ثقافة علوم الحواسيب ووسائط التواصل الاجتماعي، حيث تكونت الكيانات الاجتماعية الرقمية الجديدة في الفضاء الإلكتروني في شكل جماعات رقمية تتحاور من خلال وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها، من أشهرها الفيس بوك وتويتر والانستغرام وخدمة usenet والمجموعات الإخبارية news group ولوحة الرسائل message boards وغرف الدردشة chat room ومؤتمرات الفيديو video conferencing، وهناك أيضاً البريد الإلكتروني e-mail ، وغيرها من كيانات التواصل التي تعايش معها الناس في حياتهم اليومية، ما أفرغ الدُّور وصالات الاجتماعات وقاعات الانتظار وغيرها من فضاءات اللقاءات من الحوار وتبادل الرأي وتقارع الأفكار بشكل مباشر ، مما يغيب أسلوب التعارف المباشر ليحل محله التعارف الافتراضي. الذي كثيرا ما تكون له عواقب وخيمة على العلاقات الإنسانية.
وهذا يستدعي من علماء النفس والاجتماع التركيز على الكيفية التي تغيرت بها صيغ وحدود الزمن والفضاء والمثيرات الحسية، وكل ما هو مرتبط بأشكال الاتصال الإنساني في الحياة الرقمية الجديدة.
ومع ذلك، أتقاسم مع غاندي مقولته الشهيرة في الإنسانية بالرغم من هذا الغزو التكنولوجي الفظيع “يجب أن لا تفقدوا الأمل في الإنسانية ، لأنها محيط، وإذا ما كانت بضع قطرات من المحيط قذرة، فلا يصبح المحيط بأكمله قذرا”.
منصات رقمية وقصص إنسانية مؤلمة
خلخلت الفضاءات العنكبوتية بتلويناتها المتعددة والمتداخلة أحيانا روح المجتمع، ولخبطت أوراقه وبرامجه وحتى نفسيته عكرت مناخها وهدوءها حتى أضحى مجتمعنا المعاصر رهينة هذه العوالم العجيبة التي أحكمت قبضتها على البشرية بثرائها المعلوماتي المغري والمؤثر إلى درجة الهذيان، لعبت فيه الصورة والصوت دور البطولة بامتياز.
وما دام كل سهل للتناول مستباح، فلقد وجد الإنسان المعاصر ضالته في الصورة والصوت من خلال فضاءات اليوتوب والفيس بوك والتويتر والأنستغرام وغيرها، فصنع كل منا فضاءه المفضل أو لنقل فضاءاته المفضلة، وأحدث الناس قنواتهم اليوتوبية في أريحية واسعة، وشرع البعض في التفريج عن النفس من خلال خلق نقاش يكون في غالب الأحيان عقيما كما يكون أحيانا قليلة مفيدا، فيما استعملها البعض الآخر في بث سموم التمييز العرقي والعنصري واستغلها آخرون في ترويج سلعهم الحاطة من كرامة الانسان وسلعهم التجارية أيضا، ويبقى الطرف الجاد من أهل الفكر والعلم سخروها لتنوير الناس بخطورة ما يعيشه المجتمع الكوني من مفارقات وما ينتظره من مخاطر نفسية وفكرية بفعل تأثير هذه الفضاءات على حياة الناس التي شرعت في تحويلها إلى قطعة من نار نتيجة عدم فهم استعمالها واستغلال فوائدها العلمية والتقنية في تطوير الحياة البشرية.
هكذا انصهر الناس في عوالم مفتوحة على كل شيء في ظل غياب تقنين لهذه الوسائل التقنية الرقمية الحديثة على الأقل في وطننا الذي يعيش فراغا قانونيا في هذا المجال كما العديد من دول العالم إلى ماقلَّ، فرنسا على سبيل المثال لا الحصر في ظل قلة وعي وثقافة وعلم بما قد يسببه الادمان على هذه الفضاءات ولغيرهم من مشاكل لا حصر لها بعد تحويلها إلى منصات للابتزاز وللسب والقذف ولتوزيع تهم مجانبة للصواب دون وازع ضمير..
قصص مؤثرة ومؤلمة تُحْكى يوميا عن مخلفات وضحايا هذه الفضاءات العنكبوتية الحديثة، بعضها تسري بها ركبان المحاكم التي وجدت نفسها أمام قضايا جديدة تحبك في عوالمافتراضية و بتقنية جد متطورة، لم يستعد لها المشرع القانوني بالشكل الكافي .
أمام هذه المنصات التي تدمى ألما وحكايا إنسانية جرحها غائر حتى العمق في مجتمعاتنا، وهي تسائل المجتمع برمته والأجهزة التنفيذية حول مصير هذا الوضع الذي قد يحيلنا على نفق مظلم فيه كل عوامل وآليات الفزع والخوف والهدم، مابقيت آليات الوقاية قبل الردع مغيبة في ظل تفريغ للمجتمع من قيمه الإنسانية والحضارية المبنية على التعايش والانسجام الأسري والتسامح والتضامن والود بين أفراد المجتمع، ما يطرح بإلحاح دور علماء الدين ودور المثقف في تنظيف هذه المنصات الرقمية من خفافيش الظلام وكل حوافز الهدم والتشتيت العائلي.