الصعود من الهاوية

“أحيانًا، يَجِبُ أن تُحَطَّمَ لِتُصْبِحَ أَكْثَرَ صَفَاءً. لا أَحَدَ يَنْجُو حَقًّا دُونَ أَنْ يَنْكَسِرَ مِرَارًا.”— تشارلز
بوكوفسكيكان سعيد من النوع الذي تتوقع رؤيته مخمورًا في زاوية الحي، أو متسكعًا خلف الفتيات. جرّب كل شيء تقريبًا. الشراب؟ نعم. النساء؟ دائمًا. الحشيش؟ بالطبع.

وكان، فوق هذا، مشاهدًا نشطًا لافلام الرعب. ورغم تجاوزه الأربعين، كان لا يزال يسكن مع أمه المطلّقة التي كرّست حياتها لخدمته و تدليله.
أما والده، قبل أن ينفصل عن أمه، فكان مجرد شبح، لا يظهر في ذاكرته إلا من خلال الصراخ و عبارات اللوم : “لماذا الطعام ينقصه الملح؟ لماذا مظهرك عبوس؟ لماذا القميص متّسخ؟” ثم يغيب.
منذ طفولته، عاش سعيد في الجحيم. رأى أباه يرحل، ثم يتزوج من فتاة أصغر منه بسبعة عشر عامًا، وصفوها بأنها من الساحرات اللواتي يخربن البيوت ويصطدن الرجال المتزوجين.
وهكذا نشأ سعيد وسط هذا المستنقع من الفوضى واللامعنى. جرّب كل المتع الممكنة، لكنه استمر في الاستيقاظ على نفس الشعور: فراغ داخلي رهيب، لا مجال لملئه بأي شيء. وكان يقول لنفسه: “أنا فاشل في الحب.
منذ السابعة عشرة وأنا أعيش في سلسلة النزوات والملذّات المؤقتة. ما السعادة؟ لم أذقها أبدًا.”وفي أحد الأيام، داهمه ألم شديد في بطنه. قصد الطبيب، فكان التشخيص التالي : “أمامك ستة شهور للعيش. سرطان معدة متقدم. خذ الأدوية، وكن مسؤولًا فيما تبقّى لك من عمر.”و خارج العيادة، بدا له كل شيء بلا معنى. عاد للبيت وقال لأمه: “سأغادر. لا أعرف إلى أين، لكن لا بد أن أبدأ من جديد.”
و ما لبث ان استأجر سعيد شقة على أطراف المدينة، بعيدًا عن ذكرياته. و قرر التوقف عن كل شيء: الكحول، النساء، التدخين.
بدأ يأكل جيدًا و يمارس الرياضة و يقرأ، ويعيد اكتشاف ذاته.و قال لنفسه: “إن بقي من العمر نزر يسير، فلأعشه كرجل.. وداعا ايها الطفل ! ”ومرت الشهور.
و تحسنت صحته و صفا عقله و قلبه. و رغم ذلك، بقي يتساءل: “هل هذا الهدوء هو الذي يسبق العاصفة ؟ هل هو السقوط من الذروة؟ ”و قبل يوم واحد من موعد موته الذي أخبره به الطبيب، فتح هاتفه و وجد على الواتس رسالة طويلة من المعالج تنتظره: “سعيد، انه الاسم الذي لم تحمله يومًا.
لقد كذبت عليك. لا سرطان و لا مرض و لا هم يحزنون. أردت فقط أن أدفعك لتتغيّر و هذا هو الرهان و التحدي الاكبر. وها أنت فعلت. راقبتك طوال الأشهر الستة، وأنت اليوم أفضل من كثيرين يدّعون الصحة. سمعت أنك ترغب بالزواج.
هذه بعض الصور لفتيات يبحثن عن رجل نقي لاجل الارتباط. اختر، وسأرتب لك عددا من اللقاءات.”يل لهول الصدمة! يكاد لا يصدق..
توقف عن القراءة و ظل مشدوها يبحلق في السقف.. و بعد دقيقتين ابتسم في البدء ثم ما لبث ان قهقه حتى دمعت عيناه. و اغلق سعيد الهاتف، ونظر طويلا في المرآة. و للمرة الأولى خيل اليه انه يرى نفسه..



