
نريد في هذا المقال أن نفتح نقاشًا جذريًا حول العلاقة الإشكالية بين الإبداع والمال، خصوصًا في ظل نظام عالمي يُعيد تعريف كل ممارسة إنسانية بمنطق الربح والخسارة.
حتى الكتابة، التي كانت دومًا تمثّل ذروة التعبير الحر، أصبحت تخضع لقوانين السوق، وتُقيَّم كما البضائع، وهذا بغضّ النظر عن كونها فعلًا تحرّريًا، وإنما – للأسف – باعتبارها منتجًا يُباع ويُشترى.

كاتب، خبير في الذكاء الاصطناعي والرقمنة
أستاذ باحث بالمعهد العالي للاعلام و الاتصال،الرباط.
نعتقد أن هذا التحوّل ليس محايدًا، بل هو تعبير عن بنية أيديولوجية أعمق تسعى إلى تطويع الفكر وتدجينه، عبر إخضاع الكاتب لمنطق الطلب الجماهيري، ومن ثمّ تفريغ الكتابة من محتواها النقدي.
فبدل أن يكون الكاتب شاهدًا على العصر، يُطلب منه أن يصير منتجًا لمحتوى جذّاب وسهل الهضم.لكن المفارقة المؤلمة تكمن في أن المجتمعات التي تبخس الكاتب قيمته المادية، تطالبه في الوقت ذاته بأن ينهض بمهمة التنوير، وأن يكتب عن الحرية والكرامة والعدالة.
وهي مفارقة تنطوي على عنف رمزي لا مثيل له، إذ يُختزل دور الكاتب في وظيفة أخلاقية مجانية، وكأنّ الكاتب محرَّم عليه أن يضع درهمًا واحدًا في جيبه نظير ما يكتب.
ولا غرو أن هذا الوضع البئيس قد أدّى إلى تآكل المعنى الحقيقي للكتابة، وأنتج لنا جيلًا من الكتّاب الخاضعين لابتزاز السوق: يخافون من فقدان الجمهور، ومن إهمال الناشرين، ومن قسوة الخوارزميات.
لقد أصبحت الرقابة غير مرئية، تأتي لا من الدولة، بل من النظام الثقافي ذاته، ومن شبكاته ومصالحه، ومن الجمهور الذي يفضّل الترفيه على التفكير.
وبالتالي، فإن فكّ الارتباط بين المال والإبداع لا يعني تجاهل الحاجة إلى العيش الكريم، بل هو دعوة لإعادة صياغة موقع الكاتب في المجتمع، بوصفه فاعلًا حرًا لا تابعًا، وباحثًا عن المعنى لا عن الأرباح.
إنها دعوة لاستعادة الكلمة من قبضة السوق، وإعادتها إلى فضاء المقاومة والتغيير والتحرر. دعونا نُقرّ بأن وهم النجومية الذي صنعته وسائل التواصل الاجتماعي قد شوّه مفهوم الكاتب الحقيقي.
فقد أصبح عدد المتابعين معيارًا للجودة، وتحوّل الكاتب إلى ما يشبه المؤثّر الساعي لإرضاء الجمهور بدل مساءلته، ولتحقيق الانتشار بدل إثارة التفكير. وهكذا، حُوّلت الكتابة من رسالة سامية إلى منتَج معدّ للاستهلاك، ومن فعل مقاومة إلى سلعة معروضة للبيع في سوق الخوارزميات.
لنعترف أن هذه الوضعية ليست مجرد انحراف ثقافي، بل هي نتاج منظومة اقتصادية وإعلامية تُفرغ الإبداع من بُعده النقدي، وتُقنّنه داخل قوالب قابلة للتسويق.
وهكذا، فالكاتب اليوم ليس مراقَبًا فقط من قبل السلطة، بل من قبل ناشره، ومتابعيه، وحتى من خوارزميات المنصات. لقد صار السوق رقيبًا أعلى، وذوق الجمهور سيفًا موضوعًا فوق عنق المعنى.
والملاحظ أن كثيرًا من الكتّاب قد وقعوا في فخ هذه اللعبة، فراحوا يُكيّفون لغتهم، ويُخفّفون من جرأتهم، ويُروّجون لذواتهم أكثر مما يُروّجون لأفكارهم.
ولعلّ هؤلاء، وإن طبعوا كتبًا وباعوا نسخًا، قد فقدوا شيئًا من جوهرهم: استقلاليتهم الفكرية، وقدرتهم على الصدع بالحقيقة دون تزييف.ولعله من البديهي أن الدفاع عن “الكتابة غير المأجورة” لا يعني رفض الدعم أو التقدير المادي، بل هو دعوة للعودة إلى الأصل: أن تكون الكتابة فعلًا حرًّا، لا تابعًا لرغبات السوق.
لماذا؟ لأن الكاتب الذي يربط استمراريته بالمال، قد يتوقف عن الكتابة إذا انقطع الدخل؛ أما الكاتب الذي يكتب لأنه يتنفس ما يكتب، فهو من يَضمن للمجتمع بقاء نبضه الحي.
ختامًا، آن الأوان أن نُعيد تعريف العلاقة بين الكاتب والمجتمع، خارج سلطة الناشر، وخارج منطق “من يدفع أكثر يقرأ أكثر”.
فالكتابة ليست وظيفة، بل رسالة مقدسة، ومن يكتب ليخلق الوعي لا ليُراكم الأرباح، هو وحده من يستحق أن يُلقّب بالكاتب. وشتّان بين من يكتب ليُقرأ، ومن يكتب ليُشترى.
وفي كل الأحوال، فالتاريخ هنا ليحكم ويُغربل، وليكون شاهدًا على الغثّ والسمين، وعلى الصادق ونقيضه في عالم الكتابة.



