هل تسطع شمس هارفارد في بكين ؟

بقلم: د. مهدي عامري
ليس من الهين أن ترى نور العلم يُطفأ في معاقل كانت منارات للبشرية، كما تُطفأ السراجات في الطرقات إذا ما ساد الخوف من الحقيقة. إن ما يفعله ترامب اليوم بجامعة هارفارد لا يُعدّ مجرد صراعٍ بين السياسي والأكاديمي، بل هو مساسٌ بجوهر الإنسان، إذ يُسحب العقل من مقامه، ويُحشر في زوايا الظلام، ويُرغم على لبس عباءة الطاعة العمياء. لقد غاب عن القوم أن العقل، في حقيقته، أمانة لا يملك الحاكم أن يُصادرها، لأنها من نفخة الروح، وهدية الرحمان لعبده ليميز بها بين الحق والباطل.
غير أن الذي وقع، هو أن صاحب الصولة والصولجان أراد أن يُخضع هذه النفخة المباركة لمشيئته، فكأنما أراد أن يُغلق باب السماء على من في الأرض. هكذا، صارت جامعة هارفارد لا تُستقبل فيها الأسئلة، بل تُصادر، وصار الطالب الملتزم المتضامن مع فلسطين المحتلة مُتهَمًا بالضلالة، مع نية مبيتة لجعل الطالب مستقبلًا في هذه الجامعة العريقة مذعنًا مُتقنًا للغة الولاء. ولعل هذه بداية الزلزلة؛ أن تتحول منارات العلم إلى أبراج المراقبة، وأن يُقاس الإبداع بميزان السياسة، بعيدًا عن الصدق والإخلاص.
ومن هنا، سنفهم لماذا ستُهاجر العقول من أمريكا، وهذا ليس لأن بلاد العم سام ستضيق بها، بل لأن القلب الأمريكي الكبير الذي كان يحتويها قد تحجّر. فربما إلى الصين، التي كانت قبلةً في الأمثال ولم تكن مقصدًا في الواقع، سيُشدّ الرحال… من يدري؟! وربما سيُبعث من جديد قول المعلم الأول: «اطلبوا العلم ولو في الصين»، لا على سبيل البلاغة، بل كتعبير حي ومباشر عن النجاة في عالم اليوم. فإن كان وطن العلم قد أغلق بابه، فثمة أوطان أخرى تفتح النوافذ، بل البوابات، لا لأنها مكان للرحمة، وإنما لرغبتها في ضرب المنافس وإثبات التفوق… وأحسب أن هذا وجه فريد من وجوه العدالة الإلهية التي لا تُخطئ، إذ يُؤتى العلم من بابه لمن طلبه بإخلاص، ولو كان آتيًا من وراء البحار السبعة. وهكذا، فإن أمريكا بدأت تُفرّط في أمانتها، وتحفر، بيدها، قبر مجدها الذي صنعه العلماء.
إن مما ابتُليت به الحضارات، في آخر أعمارها، أن تخاف من أبنائها العارفين، سواء كانوا طلابًا دوليين أو غيرهم، وأن ترى في صوت الحكمة صفّارة إنذار. فالعقل، إذا لم يُستوعب بالإيمان، انقلب عليه السلطان، وصار يُطارَد كما الغريب عن القبيلة. وها نحن نشهد في هذا الغرب “المتقدّم”، انقلابًا على من بنوا أركانه، وضيّقوا في الأرض بما وسّعه الله عليهم. إنها مأساة أن يُحكم على العارف بالصمت، وعلى المفكر بالنفي، وعلى الأستاذ بالعداوة، وكأننا في موسم محاكم تفتيشٍ جديدة، لكن في جُبّة ديمقراطية مزيفة، وعلى وَقع شعارات حرّة مُفرغة من الروح والمضمون.
فأيُّ غربٍ هذا الذي لا يأمن لعقلٍ أن يتفكر، ولا يسمح لكلمة أن تُقال إن لم تكن على مقاس الهوى السياسي؟ وأيُّ حضارةٍ تلك التي تُسلّم مقاليدها إلى من يرون في الفكر خيانة، وفي السؤال مؤامرة، وفي التأمل ضعفًا؟ إنما هو تخلٍّ صريح عن ميثاق العقل، وهو أول الآيات في سردية الاستخلاف، حيث خُوطب الإنسان بالقلم قبل السيف، وبالبيان قبل السلطان. فمتى غاب هذا الميزان، اختلّت الموازين كلها، وسقطت الأمم في فتنٍ من نوعٍ جديد، عنوانها: “اضطهاد العقل باسم الأمن، ونفي الحكمة باسم الوطنية”.
إن ترامب، ومن شابهه، لا يدركون أنهم لا يُخرّبون الجامعة فحسب، بل يخلخلون توازنًا روحانيًا وأخلاقيًا أقامه حكماءُ كُثر على مدى قرون. وما نراه اليوم ليس إلا إحدى صور الغفلة الكبرى، حيث يُصارع الجهلُ العلم، ويستقوي التاجر على الفقيه، ويتصدر المنابرَ من لا يعرف أن للمعرفة حرمة، وللإنسان عقلًا لا يُستعبد. فإذا هُجر المفكرون، وعُزل العلماء، وأُسكت الدارسون، فاعلم أن الأمة سائرةٌ نحو ظلامٍ داخلي، لا تُضيئه لا مصانع ولا ترسانات، لأنه ظلامٌ مستحكم، مسيطر على القلوب.
فهل يُبعث فينا الحنين إلى تلك اللحظات النورانية التي كان فيها العقل موصولًا بالحق، لا تابعًا للسلطة، والتي كان فيها التفكير عبادة، لا تهمة؟ ما ذلك على الله بعزيز، وإن للحق جولات، وإن انحرفت الحضارة، فإنّ من سنّة الله أن يُبدّل القوم بغيرهم، يسكنون الأرض، ويُقيمون فيها العدل، ويُحيون العقل بالإيمان، لا بالسلطان. وساعتها، سيفهم من أراد طمس نور المعرفة أنه إنما كان يُطفئ شمعةً واحدة، بينما كانت شمس الحقيقة تشرق في أرضٍ أخرى.



