لماذا نجحت الإمارات في تبوّؤ المرتبة الخامسة عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي؟

ها أنذا أقرأ، بدهشة وتأمّل، تصنيف دول العالم في الذكاء الاصطناعي لسنة 2024، فإذا بالإمارات العربية المتحدة تحتل المرتبة الخامسة عالميًا، في سباقٍ محموم تتصدره القوى العظمى، وهي على التوالي: الولايات المتحدة، والصين، والمملكة المتحدة، والهند.

أما الإمارات، التي لم يكن لها في السبعينيات من القرن الماضي سوى كثبان رملية وجِمال وخيام متناثرة على أطراف الخليج، فقد أضحت اليوم واحدة من الدول القليلة التي يُشار إليها بالبنان في مجالٍ هو رأس حربة العصر الجديد.
فكيف حصل هذا التحوّل؟ وما الذي جعل دولة فتية تنطلق بهذه السرعة في مضمار لا يرحم؟ وما الذي يمنع بلدانًا أخرى، لها من الرصيد التاريخي والثقافي ما يؤهلها،من اللحاق بالركب؟إنّ ما يفسّر هذا التقدّم المدهش ليس المال فحسب، بل الإرادة السياسية، وما يرافقها من رؤية واضحة، واستعداد لتغيير البُنى والمؤسسات، وتوجيه العقول والموارد نحو المستقبل، لا نحو اجترار الماضي أو الانشغال بالقضايا الهامشية.
إنّ الإمارات، بحسابات الجغرافيا والتاريخ، لم تكن مرشّحة لأن تكون في مصافّ الدول المتقدمة، لا في الاقتصاد ولا في الذكاء الاصطناعي. غير أن صُنّاع القرار فيها قرّروا ألا يقفوا عند حدود الجغرافيا ولا قيود الموارد البشرية المحلية.
لقد وظّفوا جزءًا من المال للترفيه الاستهلاكي، وجزءًا آخر أعظم للبحث، والابتكار، وبناء الجامعات، واستقطاب العقول، وتوفير البُنى التحتية الرقمية، وإطلاق مشاريع استراتيجية مثل «مركز محمد بن راشد للذكاء الاصطناعي»، و«نموذج جيس» (Jais)، و«فالكون»، وهي نماذج تنافس اليوم أقوى المنظومات في العالم.
ليس من قبيل الصدفة أن يكون للإمارات اليوم وزير دولة للذكاء الاصطناعي، في حين أن دولًا كثيرة ما تزال تتعامل مع هذه المسألة كترفٍ فكري أو عبء أكاديمي.
فحين توجد الإرادة، يتغيّر كل شيء: في التشريع، في التعليم، في الاقتصاد، بل في تخطيط المدينة وتصور الدولة لنفسها. لقد تبنّت الإمارات منطقًا براغماتيًا، لكنها لم تُهمل البُعد الرمزي.
فهي تدرك أنّ الدخول إلى عصر الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تحديث للخوادم أو شراء رخص برمجية، بل هو تأسيس لمشروع حضاري جديد، تُعاد فيه صياغة علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، ويُعاد فيه رسم موقع الدولة في المنظومة الدولية.
لذلك فهي لم تكتفِ بالاستيراد، بل بدأت تطور أدواتها المحلية، وتدخل في شراكات مع أكبر مراكز البحث في العالم.
وفي المقابل، أجدني أتساءل، بحرقة المواطن والمثقف المشغول بهموم الوطن: لماذا لا يحتل المغرب مكانًا متقدمًا في هذا التصنيف؟ ألم يكن المغرب، في سبعينيات القرن الماضي، أكثر تقدّمًا من الإمارات في التعليم، والتمدّن، والتنوّع الثقافي، وفي العمق التاريخي؟ ألم تكن الرباط وفاس ومراكش مراكز إشعاع علمي وثقافي حين لم تكن دبي ولا أبو ظبي سوى قرى صيادين؟ لماذا إذًا تخلّفنا؟ ولماذا تقدّموا؟الجواب المؤلم هو: غياب الإرادة السياسية الواضحة.
فليس المال وحده هو ما يصنع المستقبل. المال شرطٌ مساعد، لكنه ليس كافيًا. إن المعادلة، كما أثبتت الإمارات، قائمة على وجود مشروع يستند إلى وضوح الرؤية، واستباق الزمن، وتخطيط بعيد المدى.
صحيح أننا في المغرب نملك الطاقات والعقول، لكننا نفتقد في كثير من الأحيان البوصلة. ولعلّ المبادرات المعزولة لا تكفي، وكذلك التصريحات الإعلامية، والمنتديات الموسمية.
بصراحة، إنّ ما نحتاجه هو قطيعة معرفية مع أنماط التفكير التقليدية، وثورة ثقافية تربط الجامعة بسوق الشغل، وتُعيد الاعتبار للعلم، وللعقل، وللإبداع.
إنّ الإمارات لم تنتظر إذنًا من أحد. لم تقل: نحن دولة صغيرة، عدد سكاننا قليل. بل هتفت بأعلى صوت: نحن دولة تملك الإرادة والتطلّع إلى المستقبل.
وهكذا بنت، وخطّطت، واستثمرت، وشجّعت على البحث العلمي، وشرعت قوانين محفّزة للابتكار، وأدخلت الذكاء الاصطناعي في قطاعات التعليم، والصحة، والنقل، والقضاء، والخدمات الإدارية.لقد حوّلت الإمارات الذكاء الاصطناعي من ملف تقني إلى رافعة وطنية.
وليس بغريب أن نرى في العقد المقبل دولة الإمارات بين أوّل ثلاث دول عالميًا في هذا المجال، إذا ما استمرّت على نفس النهج.
أما بالنسبة للمغرب، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: متى يتحوّل الذكاء الاصطناعي عندنا من موضوع خطب ومؤتمرات إلى موضوع سياسات عمومية واستراتيجيات تنفيذية؟ متى يصبح للذكاء الاصطناعي حضور فعلي في المدرسة العمومية، والمستشفيات، والإدارة، والإعلام، والقطاع الفلاحي؟ متى نبني نموذجًا مغربيًا حقيقيًا، لا نسخة رديئة من نماذج الآخرين؟ لا ينقص المغرب شيء في جوهره. ما ينقصه هو الإرادة في توجيه الثروة نحو المعرفة، وتوجيه التعليم نحو الابتكار، وتوجيه السياسات نحو المستقبل لا نحو الترقيع.
وهكذا فنحن نحتاج إلى جرأة في التفكير، وشجاعة في الفعل، ومساءلة حقيقية للمنظومات القديمة التي استنفدت صلاحيتها.
قد يكون تصنيف الإمارات في المرتبة الخامسة عالميًا مدعاة للدهشة، لكنه أيضًا دعوة للتأمّل.
لأنّ النجاح ليس حكرًا على أحد، ولا هو بالوراثة، بل هو نتيجة منطقية لسلسلة من القرارات الصائبة.وإذا كانت الرمال قد أنجبت صروح الذكاء الاصطناعي في الخليج، فما بال جبال الأطلس، وتلال بلادنا الخضراء، ومدارسها العريقة، والروح المغربية التي تنبض في كل شاب وشابة؟
وختامًا، متى نؤمن، نحن أيضًا، أن بإمكاننا أن نكون من الخمسة الأوائل؟ ومتى ننتقل من الحلم إلى الفعل؟.



