الفساد في قطاع الصحة بالمغرب: تحدٍّ يتطلب يقظة وحكامة

في ظل التحولات العميقة التي تشهدها المنظومة الصحية بالمغرب، تُلقي الدورة التكوينية الأخيرة التي نظمتها الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها الضوء على قضية جوهرية تُهدد جهود الإصلاح: مخاطر الفساد في قطاع الصحة. فكما أكد وزير الصحة والحماية الاجتماعية، فإن مكافحة الفساد لم تعد خياراً، بل ضرورة ملحة لضمان وصول الخدمات الصحية بجودة وعدالة إلى كل المواطنين.
– إصلاحات طموحة وتحديات قائمة
يشهد القطاع الصحي المغربي حالياً مرحلة “تحول حقيقي”، تتضمن إصلاحات هيكلية وإعادة تنظيم شاملة بهدف تحسين جودة الخدمات وتوزيعها العادل. تستثمر الدولة بقوة في هذا القطاع، وتسعى لتوسيع التغطية الصحية وتحسين البنى التحتية. لكن هذه الجهود الجبارة قد تُقوّض فعاليتها إذا لم تواكبها حكامة جيدة ورؤية استشرافية تُراقب أدق التفاصيل وتُحارب مكامن الفساد.
الوزير لم يتردد في وصف إشكالية الفساد بأنها “معقدة ومتعددة الجوانب والأبعاد”، مؤكداً أن الحلول التقليدية لم تعد كافية في ظل المتغيرات المجتمعية. هذا الاعتراف يُشكل خطوة أولى نحو معالجة جذرية للمشكلة، ويُشير إلى أن المعركة ضد الفساد في القطاع الصحي تتطلب نهجاً جديداً ومقاربات أكثر فعالية.
– “خرائطية المخاطر”: أداة استباقية لمكافحة الفساد
تُعتبر “خرائطية المخاطر” إحدى الأدوات الأساسية التي تم التركيز عليها في الدورة التكوينية. هذه الأداة لا تُقدم مجرد تحليل نظري، بل تُشكل وسيلة عملية لـفهم مكامن الضعف ومصادر الخطر داخل القطاع الصحي. هذا الفهم الاستباقي يُمكن أن يُساعد على اتخاذ قرارات وقائية قبل أن تتحول المشاكل الصغيرة إلى أزمات حقيقية، بعيداً عن منطق رد الفعل.
– القطاع الخاص: نمو يتطلب حماية المصلحة العامة
شهد القطاع الصحي الخاص بالمغرب نمواً سريعاً، مدفوعاً بدينامية استثمارية ودعم حكومي. ورغم أهمية هذا النمو في تنويع العرض الصحي وتحسين الولوج إلى العلاج، فإنه يُصاحبه “عدد من التحديات المرتبطة بترسيخ قيم النزاهة والشفافية”. هنا، تبرز الحاجة المُلحة لـضوابط واضحة، وحكامة فعالة، وآليات دائمة للتتبع والمراقبة لضمان أن هذا النمو لا يتحول إلى بيئة للممارسات غير السليمة. إن دمج البعد الأخلاقي ومخاطر الفساد في رؤية تطوير القطاع الصحي الخاص أصبح “شرطاً أساسياً” لضمان التوازن بين تشجيع الاستثمار وحماية المصلحة العامة وثقة المواطن.
– بناء الثقة يبدأ من الميدان
محاربة الفساد، كما أكد الوزير، تبدأ ببناء الثقة. هذه الثقة لا تُفرض بالقوانين وحدها، بل تُبنى بـالفعالية، والوضوح، والعدالة، والإصغاء الحقيقي للملاحظات والتحديات. يجب أن يتجسد هذا التغيير في كل نقطة تماس مع المواطن: من الاستقبال في المستشفيات والمراكز الصحية، إلى تدبير المواعيد، وحتى صرف الأدوية. وهذا يتطلب خطاباً صريحاً ومسؤولاً، يمتلك الشجاعة لطرح الإشكاليات والرغبة الحقيقية في تحسين الواقع.
إن التزام وزارة الصحة والحماية الاجتماعية بالانخراط بجدية في كل المبادرات التي تُسهم في تعزيز النزاهة داخل القطاع الصحي هو مؤشر إيجابي. ومع التنسيق الفعال بين الهيئات الرقابية والقطاعات المعنية والمجتمع المدني، يُمكن للمغرب أن يُحقق قفزة نوعية نحو قطاع صحي أكثر شفافية، ومصداقية، وعدلاً، يُلبي تطلعات المواطنين ويُعزز ثقتهم في منظومتهم الصحية.



