نحو مناعة مؤسساتية ضد الفساد: خلاصات ورشة “مخاطر الفساد في قطاع الصحة بالمغرب”

اختتمت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، بالتعاون مع سفارة مملكة النرويج بالرباط ومركز “U4″، ورشة تكوينية مكثفة على مدار يومي 17 و18 يونيو 2025. الورشة، التي تُعد الأولى من نوعها وطنياً، ركزت على موضوع حيوي: “مخاطر الفساد في قطاع الصحة بالمغرب: سلسلة القيمة الخاصة بالمنتجات الطبية والقطاع الطبي الخاص”. هذه المبادرة تأتي في سياق التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الصحي بالمغرب ورؤية إصلاحية شاملة تروم ترسيخ العدالة الصحية والتغطية الشاملة، تنزيلاً للتوجيهات الملكية السامية.
– لقاء استراتيجي لمواجهة تحديات الفساد
شكلت الورشة محطة استراتيجية جمعت بين التحليل النظري والتطبيق العملي، بمشاركة واسعة لستين (60) مشاركاً يمثلون 24 مؤسسة، بما في ذلك قطاعات حكومية، وهيئات دستورية، ووكالات وطنية، وممثليات ديبلوماسية، وتجمعات مهنية، وخبراء دوليون، ومهنيو القطاعين العام والخاص، ومكونات المجتمع المدني.
افتتحت الجلسة بكلمات توجيهية رفيعة المستوى أكدت على أهمية تبني مقاربة شمولية لمكافحة الفساد في القطاع الصحي. أبرز عبد الكريم مزيان بلفقيه، الكاتب العام لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية، أن الحكامة الجيدة ليست خياراً بل ضرورة لبناء منظومة صحية متماسكة، وأن الفساد يُقوض ثقة المواطن في الدولة والمؤسسات. وأعرب عن انخراط الوزير شخصياً في هذا الورش، مبدياً استعداد الوزارة لبناء إطار من التعاون والشراكة مع الهيئة.
من جانبه، أكد شور لارسن، سفير مملكة النرويج بالمغرب، على الطابع الكوني لظاهرة الفساد وتأثيراتها المدمرة على أسس الحكامة الجيدة وأهداف التنمية المستدامة، مشدداً على أهمية دعم المبادرات الإصلاحية بالمملكة.
وفي كلمة محمد بنعليلو، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ذكّر بعمق الرؤية الملكية السامية حول محاربة الفساد كقضية دولة ومجتمع. واعتبر أن الورشة تمثل نقطة تحول مهمة، وانطلاقة نحو اعتماد مقاربة جديدة لمكافحة الفساد في القطاع الصحي، تقوم على الحوار والتفكير الاستراتيجي لإحداث تغيير بنيوي حقيقي. ودعا إلى بلورة تحالف وطني متعدد الأطراف لتدبير مخاطر الفساد في هذا القطاع الحيوي، اعتماداً على أدوات تحليل المخاطر، عوض الاكتفاء بالمقاربات الزجرية. وشدد على أن الهدف هو بناء مناعة مؤسساتية طويلة المدى ضد الفساد.
– تحليل معمق لمخاطر الفساد في سلسلة القيمة والقطاع الخاص
شكلت الجلستان الثانية والثالثة محطة لتأطير الفهم المؤسسي للفساد، حيث أبرزت العروض والمناقشات أن الفساد ليس انحرافاً سلوكياً فردياً فحسب، بل ظاهرة بنيوية ناتجة عن هشاشة الحكامة وضعف الرقابة. وقدم الخبير مصطفى حنتر مداخلة تناولت تطور مقاربات مكافحة الفساد. وتم عرض نموذج خارطة المخاطر كأداة منهجية لتشخيص مكامن الفساد.
خلال الجلسات الرابعة والخامسة والسادسة، تركز النقاش على فهم وتحديد المخاطر المرتبطة بسلسلة القيمة للمنتجات الطبية، من مرحلة التصنيع والترخيص إلى التوزيع والمراقبة. وتم التأكيد على أن الفساد غالباً ما يتأسس على ثلاثة عناصر: النفوذ، استغلال السلطة، والسعي لتحقيق مصلحة خاصة، خاصة في غياب آليات رقابة فعالة.
وفي اليوم الثاني، سلطت الجلستان الثامنة والتاسعة الضوء على فهم وتطبيق إدارة مخاطر الفساد في القطاع الطبي الخاص، مع تمارين تطبيقية ودراسة أمثلة ناجحة في التخفيف من الفساد.
– توصيات عملية نحو قطاع صحي شفاف ونزيه
بناءً على مخرجات الورشات والنقاشات المثمرة، خلص المشاركون إلى مجموعة من التوصيات العملية، أبرزها:
– إصلاح التشريعات والتنظيمات: مراجعة الإطار القانوني والتنظيمي لتعزيز الشفافية، حماية حقوق المرضى، وتنظيم العلاقة بين المصحات وشركات التأمين.
– تعزيز النزاهة والشفافية في القطاع الصحي:
– في القطاع العام: إطلاق برامج تكوينية لتعزيز ثقافة النزاهة، ووضع إطار واضح لمسار المريض.
– في القطاع الخاص: إرساء نظام لتصنيف المصحات الخاصة وفق معايير النزاهة وجودة الخدمات.
– في مجال الأدوية: تطوير منصة رقمية لتتبع مسار الدواء، واعتماد مؤشرات لقياس مخاطر الفساد في الصفقات العمومية.
– إشراك المواطن والمجتمع المدني: تعزيز الوعي المجتمعي بحقوق المرضى وأهمية النزاهة، ودعم المراقبة المجتمعية.
– تحديث أدوات الرقابة الرقمية: توظيف التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي لرقمنة الشكاوى، والتحليل الذكي للمعطيات، واعتماد مقاربات مبنية على تحليل المخاطر.
– التنسيق الوطني والدولي: بناء شراكات مؤسساتية فعالة لتبادل المعلومات والخبرات، وتنظيم منتديات حوارية لمناقشة تحديات الفساد.
ناقش المشاركون أيضاً ضرورة تحويل هذه المخرجات إلى خطة عمل واقعية، ترتكز على التشخيص المشترك وتحديد مؤشرات للقياس والتقييم. وفي الختام، أكدت الهيئة الوطنية للنزاهة أنها ستأخذ جميع التوصيات والملاحظات بعين الاعتبار لإنجاز دراسة تتعلق بإعداد خريطة لمخاطر الفساد في القطاع الصحي الخاص، وسلسلة القيمة للمنتجات الطبية، ومسار المريض. هذه الدراسة، التي ستُشرف عليها الهيئة بالشراكة مع وزارة الصحة والحماية الاجتماعية والجهات المعنية، تهدف إلى تصميم أدوات ناجعة لتعزيز الشفافية والنزاهة وضمان استدامة الإصلاحات في هذا القطاع الحيوي.



